الزمان: التاسعة مساءً
المكان: سري جدًا
الحدث: حفلة كويرية
الأحدث: جدل وضوضاء ونشاز فكري عاطفي فاقد الملامح، لا يسعه رأسي ويسع ما وراء/ فوق/ تحت/ ذاتي.
أتأمل الحاضرين والحاضرات وملامحهمنّ الجريئة جدًا، أو الخجولة جدًا. أتمعّن في تعابيرهمنّ الجندرية التي تتفق تارة مع تلك الملامح في الجرأة والخجل وتناقضها تارة أخرى. أشعر بامتنان عميق لمجرد إمكانية تواجدي في هذا البعد الزمني المكاني المحدد.
الضوضاء في رأسي تحتد. من بين الحاضرات متناقضات الملامح والتعبير، شابة نادرة الفعل والكلام، شاحبة الوجه منفعلة اليدين. سألت صديقًا لها "هي أو هو؟"، وعلا في خضمّ ضوضاء رأسي صوت يلعن ثنائية اللغة ويلعن فضولاً لا محل له من الإغراء.
"هي" إذا.
"هي"، لو لم أكن في علاقة ثنائية الأطراف، لكنت قد درست طريقي نحو شفتيها. لكن "هي" ليست وحدها من زاد من احتقان الجدل في رأسي. "هيات" وشفاه أخريات وأشخاص آخرون لا أبالي بجندرهم بقدر ما أبالي بالخوف أو الحيرة التي تعتريني لفكرة قابليتهمن على تشويش ثنائية العلاقة التي تحتويني. والخوف ليس خوف الفعل، بمعنى الحركة أو الكلمة أو كلاهما، التي تؤدي إلى تكوين علاقة خارج إطار الثنائية، مهما كانت طبيعة العلاقة في البعد الزمني المكاني العاطفي الجنسي، بل هو الخوف من تأثير الفعل على العلاقة الثنائية والانشقاق أو الانكسار أو الاندثار الذي ستؤول إليه.
عندما اُعجبت بأول شخص في حياتي، كنت في الثالثة عشر من عمري وكنت، رغم ولعي الشديد به، وبدون وعي أو تنظير لحالتي آنذاك، أترك لمخيلتي المجال في التفكير ولمشاعري المجال للإعجاب بأشخاص آخرين، دون أن يولّد ذلك في داخلي انطباعًا بالإقدام على الخيانة أو إحساسًا بالندم. بعد مرور بضع سنوات، لم يتغير موقفي فيما يتعلق بعدد الأشخاص الذين قد أعجب بهم في آن واحد. كنت أعتقد حينها أنه شيء طبيعي جدًا، بحكم التركيبة الديموغرافية العملاقة لسكان الأرض أولًا، والتركيبة العاطفية المعقدة للقلب البشري ثانيًا، والذي، من حيث شبهه بفندق عديد الغرف (شبهه التشريحي من وجهة نظر العلم، وشبهه النظري من وجهة نظري أنا) يسمح بمواكبة الديموغرافية النامية وتأمين لجوء عاطفي للعديد من الأشخاص في مساحة زمنية متقاربة، دون حصول تواصل بين الغرف بالضرورة.
رافقني هذا المفهوم بضع سنوات أخرى، عبرت فيها من نبذ النسوية إلى تقبّلها ثم تبنيها واحتضانها وتهذيب مراجعي فيها. وبقدر ما كان موقفي بعدها من العلاقات ثنائية الطرفين شديد الحزم، بقدر ما كان موقفي من العلاقات متعددة الأطراف نظريًا بحتًا. كنت أرى في الأولى شكلًا من أشكال الرأسمالية البشعة، وتجليًا آخر لأبوية متغطرسة، وتسلطًا على حرية الجسد وتضييقًا للطاقات العاطفية البشرية الهائلة. وكنت أرى في الثانية سبيلًا للتحرر من كل تلك القيود. قيود الغيرة اللامنطقية. قيود الرومانسية الاستهلاكية المفرطة. قيود قدسية الجسد. قيود "الشخص المناسب" الذي لابد أن يكون واحدًا أحد، ليس له كفء أحد. قيود الحب حتى الموت. قيود الرتابة العاطفية والخمول الفكري والجنسي.
وقيود الإدغام.
جعلت من مقاومتي لتغوّل النحن عذرًا لزرع مفهومي لتعددية العلاقات على أرض الواقع
ولربما كان هذا الأخير أكثرهم إثارة للهلع في نفسي. الخوف من التحول إلى شاهدة عيان تتأمل طرفي العلاقة يُدغَمان في صلب واحد، كيان واحد، وجود واحد. الخوف من أن تغدو الأنا والهي/الهو نحن، وأن يمحو النحن الأنا والهي/الهو تمامًا.
جعلت من مقاومتي
تزامنت أول علاقاتي متعددة الأطراف باكتشافي لهويتي الكويرية. وكانت تجربتي في استطلاع تعددية الأطراف موازية لتجربتي في استطلاع قدرتي على محبة أكثر من شخص واحد في نفس الاطار الزمني المكاني، فتبلور مفهومي لتعددية الحب التي تلغي هرمية العلاقات و ترتيبها من الرئيسية إلى الثانوية، ومن الجديرة بالالتزام إلى الأقل جدارة. ومن هذا المنطلق، كنت أرفض هيمنة طرف في العلاقة على حساب الأطراف الأخرى، مهما كانت طبيعتها (عاطفية كانت أو جنسية أو فكرية) وكانت الاستمرارية المرجع الوحيد في تصنيف العلاقات، من مستقرة أو منتظمة إلى متقطّعة إلى وحيدة الوقوع (علاقات المرة الواحدة).
كان أحد الأطراف "المستقرة" أو المنتظمة على نفس الصفحة من المقاومة وفي نفس درجة التوق إلى هدم كل المعطيات الموروثة حول قدسية العلاقات الثنائية وإعادة بناء مفهومه الخاص على ضوء تجاربه الشخصية. وكان الطرف "المستقر" الثاني تقليديًا جدًا بالمعنى المتعارف عليه فيما يخص تركيبة العلاقات العاطفية.
لا يكون الخروج من علاقة متعددة الأطراف كالدخول إليها، كما لا يكون الخروج من العلاقة بأحد الأطراف كالخروج من العلاقة بطرف آخر. خروجي الأول كان من علاقتي مع الشخص "التقليدي"، بحكم فشل مشروعه في التوصّل - عبر علاقتنا - إلى تقبّل ثم إبرام علاقات متعددة الأطراف دون الشعور دومًا وبطريقة غامرة جائرة بالخوف والغيرة والغضب والحيرة والنقصان.
خروجي الثاني كان من علاقتي مع زميلي في المقاومة (أي مقاومة العلاقات الثنائية). اختلفت أماكن تواجدنا فافترقنا. ببساطة. بهدوء. بقدرٍ عالٍ من الطمأنينة والامتنان. خروجنا من العلاقة لم يعن انتهاءها. انتهت علاقتي مع الشخص الأول بينما هي تتواصل مع الثاني. والخروج من العلاقة لا يعني بالضرورة الخروج بدروس أو عبرٍ يمكن الرجوع إليها مستقبلًا، مهما تشابهت دوافع الدخول ومراجع الأطراف وميكانيزمات الخروج.
تصورات الأشخاص الكويريين قد لا تختلف كثيرًا عن تلك التي يحملها الأشخاص المغايرون
اعتقدت لفترة أن انتهاء علاقتي بالشخص الأول كان مؤشرًا لاستحالة ارتباطي مجددًا بشخص "تقليدي المفهوم". أصبح الدفاع عن مفهوم تعددية العلاقات جزءًا من نضالي النسوي الكويري. ورغم ما يُشاع على المجتمع الكويري من انفتاحه على التجارب المختلفة وتقبّله وتبنيه للتعددية كشكل من أشكال الاختلاف، إلا أن تصورات الأشخاص الكويريين قد لا تختلف كثيرًا عن تلك التي يحملها الأشخاص المغايرون، حيث أن الفرق لا يكاد يتجاوز اعتراف الكثيرين داخل المجتمع الكويري بشرعية مفهوم التعددية - سواء بشكل ضمني أو علني -، لكن مع تقبل تجلياته فقط حين تنزح عن العاطفة نحو اكتشاف الذات والجسد والأخرى/الآخر، بمنأى عن قيم الحب والإخلاص والتفاني التي تعتبر غائبة أو مُغيّبة عن هذه المحاولات اللحظية جدًا. فقبول العديد من أفراد المجتمع الكويري للتعددية ليس مُطلقًا كما يمكن أن يُتخيل، بل ما يزال محصورًا باعتبارها ممارسة ونزوة عابرة تمر بمرور مرحلة الاكتشاف وباكتفاء الفرد من تجارب التعرف على الذات والغير. فيُعترف بالتعددية كخيار وممارسة لحظية، لا كطبيعة متلازمة بالشخص مثلها مثل الثنائية، ويُعتبر الرجوع إلى هذه الأخيرة حتميًا لا مفر منه.
تُعتبر النساء المغايرات متعددات العلاقات، في نفس المخيلة الجماعية، حاملات لهوس مرضي بالجنس
عادةً ما يكون تصوّر التعددية، في المُخيّلة الجماعية المغايرة، على أنها شكل من أشكال الامتيازات التي يحظى بها الرجال في مجتمعنا الذكوري ولا يُعابون عليها بحُكم افتراض الفيض الكبير لاحتياجاتهم الجنسية مع افتراض أنه لا تقابلها احتياجات جنسية نسائية معادلة. وتُعتبر النساء المغايرات متعددات العلاقات، في نفس المخيلة الجماعية، حاملات لهوس مرضي بالجنس، فتكون ممارستهن لتعدديتهن شكلاً من أشكال الانحطاط عن القيم النمطية للثنائية العفيفة وتهديدًا لثوابت الخلية الأسرية والشرف الأبوي. إضافة إلى ذلك، وحتى داخل المجتمع الكويري ذاته، عادة ما تُحصر العلاقات متعددة الأطراف في بُعدها الجنسي الشبقي، فتُطرح وبطريقة شبه تلقائية أوجه المقارنة البغيضة بين النساء الكويريات متعددات العلاقات والرجال المغايرين متعددي الضحايا. ورغم أن للعلاقات متعددة الأطراف بعدٌ جنسي شبقي فعلًا، ومع أنها قد تنحصر فيه حقًا، إلا أن ركيزة العلاقات التعددية، والتي تنعدم عند الرجال المغايرين متعددي الضحايا، هي الرضا المسبق الصريح والمستنير، مع الاتفاق على شكل العلاقة وبنودها وأركانها ومجالاتها وحدودها.
نظريًا، تُبنى العلاقات متعددة الأطراف على أساس التواصل المفتوح والصادق والإشعار المُسبق لأي طرف جديد في العلاقة بوجود أو إمكانية وجود أطراف أخرى، مستقبلًا، تربطهم علاقة بالشخص متعدد العلاقات. ويتفق هذا الأخير مع كل طرف على حدى على الصيغة المثلى للعلاقة وتموقعها بالنسبة للعلاقات مع الأطراف الأخرى وحدود كل من الطرفين في تقبلهما أو عدمه لأشكال معينة من تعددية العلاقات.
سقطت شرطيّة استحالة ارتباطي بشخص ذو منظور تقليدي (أي ثنائي تركيبة العلاقات العاطفية) عندما اُغرمت بشريكتي الأخيرة. طبعًا، عندما بدأت أحس بالانجذاب، أشهرت راية المقاومة. حاولت الزج بالموضوع في أي نقاش يدور حول العلاقات الحميمية. تشبثت بمكتسبات تجاربي في فك القيود وكسرها. احتميت وراء شغفي باكتشاف العالم الكويري في بلد جديد. ثم قلت "نحن"، أخذت نفسًا عميقًا، خفضت الراية وقفزت.
ما أزال أعتقد أن القلب البشري يحب كثيرًا، كمًّا ونوعًا
لم يتغير موقفي من العلاقات التعددية. ما أزال أعتقد أن القلب البشري يحب كثيرًا، كمًّا ونوعًا. ما أزال أعتقد أنني كلما أحببت طرفًا، زاد تعلّقي بالطرف الآخر. وكلما اشتهيت طرفًا، رجعت لآخر بلهفة أعمق. وكلما انجذبت، أو وُلعت، أو عشقت، أو اُغرمت بطرف ثان أو ثالث أو رابع، زدت بالأطراف الأخرى تتيّمًا وهيامًا. وما أزال أعتقد أن العلاقات التعددية لا تنبثق من نقصان يعتري ما يمنحه طرف ما، فيكمّله طرف آخر.
ولكنني الآن أعتقد أن العلاقات ثنائية الطرفين، مثلها مثل العلاقات متعددة الأطراف، باب من أبواب القضاء والقدر. فأصبحت، إن أنا أشهرت راية المقاومة، أرفعها للدفاع عن الثانية لا للردع عن اعتناق الأولى. ولو أنني ما أزال أعتقد أن الأولى تفسح المجال لتغوّل النحن ورفع الجسد لمراتب القدسية العمياء وإطعام الغيرة وهوس التملّك، إلا أن علاقتي الثنائية مع شريكتي الأخيرة، النابعة عن خيار مستنير متجدد، دفعتني إلى إعادة التفكير في المقاربات العديدة لتركيبة العلاقات العاطفية عند الأشخاص "التقليديين". هناك معطيات تتواجد بديهيًا في كنف هذه العلاقات وتدخل في حيّز رتابة الثنائية، بتأثير لحظي قد يُعبَّر عنه أو يُتجاهل لإدراك الطرفين مدى تجذّرها في التركيبة الخاصة بالعلاقات الثنائية. فالغيرة، المتحكم فيها قليلًا أو كثيرًا أو تمامًا، والمراقبة المستمرة للذات حرصًا على الاحتراز من لُبس في فعل أو كلمة أو نظرة قد تعكّر صفاء الثنائية، والحضور الدائم الضمني للنحن، سواء تجلّى في صُلب التواجد المادي لطرفي العلاقة، أو في السؤال التلقائي "أين هي؟" الذي يوجّهه المحيط المباشر لأحد طرفي العلاقة عند غياب الطرف الآخر، أو في انصهار دوائر العلاقات الصديقية والعائلية لكلا الطرفين فتصبح العائلتان عائلة واحدة، وأصدقاء الطرفين أصدقاء الزوج، كلها معطيات قد نجدها أو نتوقعها أو نفترضها في العلاقات الثنائية. ثم تتأتى معطيات أخرى يصعب افتراضها مُسبقًا؛ عندما يتفهّم الطرف "التقليدي" الطرف "المتعدد". عندما يغدو الطرف التقليدي عائلة الطرف المتعدد، فيتوهّم الأخير أن الثنائية اختزال للتعددية، بشيء من الغرابة وكثير من الاستئناس. ثم يعود الطرف التقليدي ليُذكّر المتعدد أن الثنائية تستثني التعددية ولا تحتملها كإحدى تجلياتها.
ولكن قبل طرح سؤال مآل العلاقات الثنائية التي تجمع طرفًا "تقليديًا" بطرف "متعدد"، لا يمكن إغفال النظر عن طبيعة الطرفين وقابلية توافقهما. يبدو إقصاء المغالطة الرومانسية المتمثلة في إمكانية احتواء التعددية للثنائية مؤلمًا أولًا، ثم يشق طريقًا للطرف "المتعدد" في تصالحه مع ذاته، تمامًا كما يتصالح الطرف "التقليدي" مع استحالة تقبله أو تبنيه للتعددية في علاقاته عن طريق المحاولة والتجربة. إن كانت فرضية تطور المفهومين وإمكانية توافقهما مطروحة عند البعض، فالسؤال يبقى معلقًا عند الكثيرات والكثيرين، وفي صيرورة نفسي أيضًا بعد انتهاء علاقتي الثنائية الأخيرة، خاصة عند اصطدامهن/م بالمرجعية العاطفية السائدة والمتفق عليها اجتماعيًا بالنسبة لتركيبة العلاقات، والتي تفرض الثنائية كاختيار بديهي عندما يطرح طرفًا العلاقة، "المتعدد" و"التقليدي"، السؤال حول توجّه تركيبة علاقتهما.
إضافة تعليق جديد