أذكر اليوم الذي أخبرتني أمي فيه أن تلك كانت السنة الأخيرة التي سأتمكن فيها من الذهاب إلى المسابح والشواطئ العامة المختلطة. كنت ابنة عشر سنوات حينها وأتذكر أنني كنت قد تخطيت خوفي من المياه ومن الغرق ومن أن أتوه عن شمسية عائلتي على الشاطئ الطويل المزدحم. بعد إعلان أمي أتذكر جيدًا أنني لم أخرج من البحر حتى انكسرت الشمس وتركت وراءها حروقًا واضحة على جلدي، لم أكن أبدًا متأذيّة ولم أقبل أن تضع أمي أي دواء عليها، كنت أود لو بإمكاني أن أحافظ عليها أطول مدة ممكنة كذكرى لهذا اليوم الذي علمت أنه اليوم الأخير للترحيب بوجودي في مكان عام.
خلال الأسابيع الماضية، خضت تجربة قراءة عبقرية مع نظرية الهويّة المكانيّة1 التي كتبت عنها سارة أحمد. راجعت معها كل مرة نظرت فيها إلى المعاني والأماكن بغضب مرّة وبحب مرة وبشفقة مرة أخرى. قرأت نص سارة أحمد في إطار تحضيري لبحث عن تأثير الأماكن على هوياتنا كنساء، وشجعني على السباحة ضد التيار الذي لا يعرف هوياتنا كنساء سوى في إطار القهر أو الانتصار لأنني لم أتمكن أبدًا من تعريف هويتي كامرأة منسحقة أو امرأة منتصرة بالكامل، طالما كنت في الوسط.
تعلمت أنّ الانزواء هو أول آداب التهذّب في الظهور في العالم كامرأة
في كتابها أن أحيا حياة نسوية2 تقول سارة أن النسوية هي عملية حسية في الأساس. نحن نمارس النسوية كل يوم من خلال استشعار الظلم أو التمييز أو الإقصاء. وبذلك يكون جسدي هو أول نافذة لرؤيتي للعالم وفهمي لقواعده. اكتسبت أول معرفتي بمساحاتي حينما حجبوني عن العالم ولفّوني في ورقة قصدير بعيدًا عن أشعة الشمس لكي يكفوا أذى جسدي عن الآخرين، وحينما تسللت أصابع أحدهم تحت هذا القصدير وغاصت بين أعماق لحمي وجلدي تاركة بذورًا شيطانية من الذنب والخجل والغضب والرغبة في التحلل حد الاختفاء. في كل مرة لم يكن مرحبًا بمجرد وجودي الجسدي في أحد الأماكن، قمت بليّ وقلب حكمي وتقييمي، وتعلمت أنّ الانزواء هو أول آداب التهذّب في الظهور في العالم كامرأة. لم يكن وجودي أنا شخصيًا غير المرحب به في المساحات العامة ولكن ما يرمز له وجودي، كما تقول سارة أحمد. أنا أذكّرهم بكل المعاني التي يجب أن تُدفن في حفرة عميقة، بعيدًا عن الأنظار، كأن يصطحبني أحدهم خارج غرفة قائلًا: "ماذا تفعلين هنا؟ أنت تنتمين لغرفة المنسيّات ... هناك بعيدًا بمسافة تمنعنا من شم رائحتك أو سماع صوتك ... أنت امرأة، لا تنسي ذلك أبدًا". في كل مرة من المرات تُكّون هذه المواقف طبقة جديدة من جلدي، طبقة داخل عقلي، طبقة تعمل كما الفلتر أو المصفاة، تقوم بعكس كل تصرفاتي وكلامي ليلائم الآداب العامة، بل تغير من توجهاتي ورؤيتي الباطنية وتقييمي للحياة، بل ولنفسي لتصبح الحدود المفروضة من الخارج هي أيضًا صوت ضميري. هكذا تسير الأمور، هذا ما يمكن أن تطمحي إليه وهذا ما لا يمكن... هذا منطقي وهذا غير منطقي.
علّمتني تجربة جسدي في التقائه المستمر بالعالم حدود مساحاتي وإمكانياتي، ولأن علاقتي بالعالم علاقة ثنائية الاتجاه -من جسدي للعالم وبالعكس-، فإن موقعيّتي التي رسمت حدود الممكن واللاممكن رسمت أيضًا طريقًا للمقاومة. علاقة جسدي بالعالم ليست أحادية الاتجاه بل هي طريق يتجاذب أطرافه العالم بكل مدخلاته وخصوصياته ومحدداته وأشاركه أنا بكل خيالي الجامح وانزوائي ورغبتي في الجري حتى تسبق قدماي صوت حراس الممكن واللاممكن. هل ما أقوم به من معاكسة تيار العالم في بعض اللحظات يرتقي لفعل المقاومة؟ لم يختبر جسدي تجارب العالم فقط، ولكن اختبر أيضًا تجاربي في الدفع بحدود الممكن لنقاط أبعد. ذاكرتي تحتفظ بمشاهد صغيرة ومسروقة حينما دفعت بكل جسدي في الاتجاه المخالف لأكتشف عوالم أبعد مما هو مسموح به و يخالط لون القهر في جلدي ألوان أخرى. إذًا من أنا؟ إن كان القهر والمقاومة ما يشكّلونني، إلى من أنتمي؟
عودة إلى المسبح.
أتذكر أيضًا أنني اعتدت أن أصطحب أخي إلى تدريب السباحة، لأنه لم يكن مسموحًا لي بالاشتراك فيه، فقط يمكنني أن أظهر كراعية لأخي الأصغر، نظرًا لأني أصبحت امرأة لا يجوز لها الظهور بشكل واضح في مساحات عامة، ولا يجوز لها مزاحمة الرجال ومشاركتهم في ما بدا لي كحدود عسكرية تفصل بيني وبينهم. عندما كنت أشاهد أخي أثناء التدريب، كنت أميل بجسدي ناحية حافة المسبح بكلّ ثقلي، محاولة أن أكون خفيّة على قدر المستطاع، مثبّتة نظري على أخي وعلى المدرب، أحفظ تعليماته كما لو أنني أحفظ كلمة سر للخروج من قفص صدئ وأحلم بيوم السيدات لأتمرن على السباحة وحدي، هذا اليوم الذي كان يمثل عيدًا بالنسبة إليّ حتى وإن كان يؤكد لي أن وجودي مرحب به فقط في مساحات منزوية. في يوم السيدات، وفي نفس المسبح الممنوع، كنت أحظى بوقت أستطيع اكتشاف هويات وحدود جديدة مغايرة لتلك التي فرضت على دور الفتاة التي تعد الساندوتشات لأخيها عقب خروجه من التدريب. وللمرة الأولى أفهم اليوم ماذا فعلت بي هذه الذكريات وكيف عشت وتواجدت في مساحات بأدوار مختلفة وهويات قطبيّة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
لم يكن البحر ولا المسبح، كانت موقعيّتي منهما، كانت العين التي أرى بها هذا الجماد هي الفارق. هذا ما تحاول سارة أحمد شرحه في نظريتها عن الهوية المكانية. تقول إن هوياتنا تتأثر بموقعيتنا من المحيط، ما هو المتاح وغير المتاح وفقًا للنقطة التي ننظر منها للعالم. فنحن لا يمكننا رؤية ما خلفنا لأنه غير متاح. وكذلك موقعيتنا الجندرية، نُولد بموقعيات تُحدد الجهة التي يجب أن ننظر منها للعالم وبالتالي يخضع الممكن وغير الممكن لقواعد النقطة التي نواجه منها العالم، ومن العين التي نرى بها الأشياء حولنا. البحر هو البحر لم ولن يتغير، ولكن ما تغير هي الموقعية التي قمت باحتلالها وأنا أتعامل مع تلك المساحة. كانت حروق الشمس هي علامات تأثير المكان على جسدي ليصقل معه هويتي يومًا بعد يوم. نحت الهواء شكل شعري وتركت المياه أصابع قدمي منبعجة، ولكن لم تكن تلك الخطوط على سطح جسدي هي كل ما خلفه المكان، لم تكن إلا رمزية لكل التغيرات التي اختبرها جسدي وذاكرتي حين سمحت لنفسي أن أسكن الأماكن وأن أدور في الأركان تاركة فتحة صغيرة يتسلل منها أثر المكان لقلبي. وحين قررت أن أتوجه ناحية المسبح من الشرق على خلاف الاتجاه المنصوص عليه، وأن أترك موقعيتي وهويتي التي رسمت مسبقًا وأرحب بكل هوية جديدة أكونها في رحاب الأماكن التي لم أعتد على سكنها إلا من خلال موقعية واحدة، كانت هذه هي لحظات الانخلاع من هويتي القديمة، ولحظات سكني لهوية لاحت في أفق الطرقات المعتادة.
إذ نسكن الأماكن ونميل نحوها ونتوجه إليها بعين جديدة، نحن لا نغير من ماهيتها شيئًا، ولكن نحن نغير موقعنا
إننا إذ نرى الأشياء ونتحدث عنها ونسكنها، نحن لا نستدعي قلوبنا ولا جوهرنا، ولكن نستدعي وجهة النظر المنصوص عليها مسبقًا وفقًا للمواقع الجندرية لكل منا. نكوّن مفاهيمًا عن الوصم والأخلاق والإتاحة والرغبة من خلال تلك الموقعية، فما يظهر من زاوية 90 يختلف تمامًا عن ماهيّته إذا نظرنا إليه من زاوية 24. ومع تكرار النظر من الزاوية نفسها، فإننا نصاب بعدوى هذه الزاوية، وتصبح هويتنا تشبهه خصائصها وفهمها ووعيها، حتى نكاد أن نجزم أن ما نراه هو حقيقتنا وميولنا. ونحن إذ نسكن الأماكن ونميل نحوها ونتوجه إليها بعين جديدة، نحن لا نغير من ماهيتها شيئًا، ولكن نحن نغير موقعنا الذي يفرض تلك الهوية ونفكك معايير وقواعد الوجود والهوية.
لم أعد أتوجه نحو الأماكن التي اعتدت أن أُنبذ منها من منظور المتسلط/الضحية. أعتبر وجودي في تلك اللحظة و بتلك الهوية خطًّا في طريق بناء مساحة جديدة لا تعرف الثنائيات. أعرف جيدًا ما يثيره وجودي بصورة جديدة في مكان لم يعتد سوى الثنائيات، وما هي المعايير التي يستفزها وما هي المنظومات التقييمية التي يربكها، ومن نقطة الارتباك هذه، تتولد مساحة ثالثة جديدة قادرة على إعادة تعريف العلاقات والمواقع. مساحة لا تكترث لثنائية المعنى والوجود، مساحة مقاومة تخضع لقواعدي أنا ومعاييري أنا. مساحة تقترح بُعدًا ثالثًا ورابعًا وربما بعدًا لا يمكن ترقيمه نعيد فيه اكتشاف المعاني والميول والهويات سواء كنت واعية وقاصدة لهذا الارتباك أو لم أكن أقصد.
وصلت إلى نقطة تقبلت فيها أن الخطوط التي تميز جسدي هي خليط من كل ما مررت به
عشت ليالٍ طويلة مع نوبات الغضب المتتالية التي انتابتني في كل مرة لاحظت خطًا رسمه القهر على جسدي، حتى وصلت إلى نقطة تقبلت فيها أن الخطوط التي تميز جسدي هي خليط من كل ما مررت به، وأن تغيير زوايا الرؤية وحروق الشمس على جلدي لم تكن إلا بداية لعملية صقل لم تكن لتتم بدون سكن الأماكن والتوجه نحوها في هويات مختلفة ومتعددة، هويات مقهورة ومنتصرة ومنزوية ومترددة. استوعبت حينها أنني حين أسكن الطرقات وأتوجه لها من هذه الزاوية الجديدة، فأنا أضع قواعدي ومعاييري الخاصة التي قد تخلق حيزًا من المقاومة المربكة: محاولة إيجاد صياغة شخصية لما تعنيه كلمات مثل منمق وشخصي ومختلف ومقبول وأخلاقي، متحررة من تأثير الحدود التي وضعها لي العالم لفهمه. أحاول إعادة صياغة فهمي للعالم في صورة تفسيرات وقراءات تجتهد لتخرج من حيّز الثنائيات لرحابة موقعيات تكوّنها أعين جديدة تنظر للعالم وكأن المعنى يُخلق لتوّه. تفسيرات لا يمكن تعريفها ولا وصفها بالقهر أو بالانتصار الخالصين، ولكن هي نتيجة مزيج من تلاقي جسدي بكل قوته مع مساحات العالم بكل قوتها.
يميل القهر نحو جسدي ويدفعني نحو حافة السكوت المطبق، فأميل بجسدي أنا الأخرى، دافعة بكل قواي في الاتجاه المعاكس. وفي هذا الحدث المتكرر تتشكل هويتي. أتعرف على هذا العالم وأقاومه وأحبه وأبغضه وأحتل مكاني فيه ويحتل مكانه بداخلي. في تلك العملية الفيزيائية التي تحدث حين تتلاقى قوتان متضادتان في الاتجاه أعرف أنني لست بنت الهزيمة ولا بنت الانتصار، أنا بنت التقائهما.3
إضافة تعليق جديد