في الماضي، شكّلت الراقصات الشعبيّات التونسيات بحضورهنّ ولباسهنّ التقليديّ علامةً بصريّةً وجماليةً فارقةً. فكيف صرن اليوم يُغطّين أجسادهنّ بأقمشةٍ قبيحةٍ مستوردة وقمصانٍ قطنيّةٍ خانقة خوفًا من الوصم؟
حظيت شخصيات مسلسل "نوبة (عشّاق الدنيا)" التونسي باهتمامٍ كبير خلال فترة بثّه في شهر رمضان المنقضي. كلُّ شخصيّةٍ لامست شيئًا ما بداخلنا خاصّةً وأنّ أحداثه تدور في فترة التسعينيات. الطابع النوستالجيّ حاضرٌ بقوّة في المسلسل الذي سلّط من خلاله المخرج عبد الحميد بوشناق الضوء على موسيقى المزود وأجواء الكباريهات والتشابك بين السياسة والفنّ. في وسط هذا، هناك شخصيّات ظلّت مُهمّشةً ولم يهتمّ بها الجمهور لأنّها ثانويّة أو بتعبيرٍ أدقّ "كومبارسيّة"، لا تتكلّم ولا تتفاعل مع الأحداث ولا نعرف عن مسارها شيئًا: راقصات الفنّ الشعبيّ اللاّتي تعرّضن للسخرية والتحقير من قبل "داندي" - إحدى الشخصيّات الرئيسيّة في المسلسل - بسبب لباسهنّ الذي سيكون محور مقالنا هذا.
"داندي" اسم شخصيّة رجلٍ يشتغل بكباريه وموصومٌ من قبل حرّاس الأخلاق بـ"تشبّهه بالنساء". "داندي" إذن شخصيّة من الهامش لأنّ الثقافة السائدة تحاول قمعه وقولبته بسبب لباسه وطريقة كلامه وسلوكه، لكنّها شخصيّة تُعيد إنتاج نفس آليّات الثقافة السائدة باحتقاره للموسيقى الشعبيّة وللراقصات الشعبيّات واعتبار الراقصات الشرقيّات أجمل وأرقى. ففي إحدى الحلقات نظر إلى لباسهنّ بازدراءٍ شديد وقال لهنّ بملامح وجهٍ تعبّر عن القرف والامتعاض: "ما هذه الرداءة!".
لعلّنا جميعنا في تونس نذكر الراقصتين زينة وعزيزة، وهما أختان ذاع صيتهما في
"الثُوب" كان دائمًا إمّا مطرّزًا يدويًا أو كروشيه أو دونتال، جاء به الفلاّحون والتجار المهاجرين من مالطا وإيطاليا منذ عشرينيات القرن الماضي تقريبًا. هناك نوعٌ آخر من الأقمشة المطرّزة صارت إلى جانب "الثُوب" من العناصر الأساسيّة في اللباس التقليديّ التونسيّ وهو قماش "الريكامو" الذي جلبته النساء الإسبانيات إلى تونس، وأصل التسمية recamo وتعني التطريز أو القماش المطرز وهو قماش غالبًا ما يكون أبيض اللون مطرزًا بالورود بنفس لونه.
لبست زينة وعزيزة "الملحفة فالوتي" وهي رداءٌ مطرزٌ يدويًا، و"المصبَّع" الذي يتخذ خطوطًا عريضةً على كامل الرداء تحمل ألوانًا زاهية وسمي المصبّع تشبيهًا بأصابع اليد، فالخطوط به مجانبة لبعضها كالأصابع وهي مستوحاة من "الملحفة الشاوية" رداءٌ أمازيغي عُرف في منطقة الأوراس بشرق الجزائر ويسمى سكانها الشاويّة، تتشابه عاداتهم وموسيقاهم الشعبية بعادات الغرب التونسي بحكم قرب المسافات بينهم. كما لبستا "البسكري"، الذي قدم إلى تونس في عشرينيات القرن الماضي من مدينة بسكرة بالجزائر وصار لباسًا رسميًا للحفلات بجزيرة جربة ويسمّى صانعه "الحوكي". وتمتد حياكة هذا الرداء أو "الملحفة" بين 15 و30 يومًا، أما تطريزه قد يتطلّب شهورًا وذلك حسب خصوصية كل جهة.
أضافت زينة وعزيزة القيمة المفقودة للرقص الشعبي، قيمة الموروث الثقافي بكل ما يحمله من تاريخ نساءٍ تبدع وتبتكر، وتطرّز، وتصنع الرموز وتجعل من الوشم الأمازيغي زينةً حتى في الرداء وأثاث البيت البسيط. ولكنّ هذه القيمة سرعان ما تشظّت في فترة التسعينيات مع تهميش نظام بن علي للفرقة الوطنيّة للفنون الشعبيّة التي اندثرت سنة 1997 واجتياح الرقص المعاصر للتلفزات التونسية عن طريق باليه سهام بلخوجة ومحاولات عصرنة الرقص الشعبي بإدخال مصطلح التعبير الجسمانيّ عليه. تميّز هذا الباليه بالظهور الدائم والمتواصل في التلفزة مقارنةً بباقي الراقصين والراقصات الشعبيّات كما تميز أيضًا بغياب اللباس التونسي ومزج الرقص الشعبي بأنماطٍ غربية، الأمر الذي جعل سكان الأحياء الشعبية سواء بمدينة تونس العاصمة أو بمدن أخرى يعيشون حالةً من النفور التام ويعتبرون أن العصرنة قد انتهكت حرمة موسيقاهم وثقافتهم. وبالتالي تراجعت الموسيقى الشعبية أمام الفنون المعاصرة خاصةً مع دخول فكرة تهذيب الذوق العام إلى المخيال الشعبي.
في تلك الفترة شهدت تونس عدة تغييراتٍ سواء على المستوى الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي، حيث تعزّزت النزعة المحافظة لدى العائلات التونسيّة مع تراجع دور السينما والموسيقى والمسرح أمام التلفاز والمنوّعات الترفيهيّة إلى جانب اهتمام الدولة بمجال الصناعة وتهميش كلّ ما هو ثقافيّ. جميعها عوامل ساهمت بشكلٍ أو بآخر في تعزيز النظرة الدونية للمرأة الراقصة وخاصّةً الراقصة الشعبيّة التي صرنا نراها ترتدي قميصًا قطنيًّا بكُمّين طويلين يُغطّي كامل رقبتها لتفادي التعليقات المهينة.
لم يتغيّر لباس الراقصات الشعبيّات فقط بسبب هذه النزعة المحافظة وإنّما أيضًا بسبب بعض العوامل الاقتصاديّة. فقد ساهم توقيع تونس سنة 1990 على اتفاقية الجات مع الاتحاد الأوروبي، ثم اتفاقية الشراكة سنة 1995، والتي كان هدفها إنشاء منطقة تجارة حرّة تعفي الواردات الأوروبية من الأداءات الجمركية، في انهيار قطاع النسيج في تونس، وبالتالي تعويض الأزياء التقليدية التونسية بأقمشة مستوردة. فصرنا نرى الراقصات تتزيَّنَّ في المحفل برداءٍ زهري أو أزرق اللون ذي دوائر صغيرة لامعة بالذهبي أو الفضي كان يسمى "ملحفة بالفلس". وفي جهاتٍ أخرى بتونس يسمى "صباح الخير". هذه التسميات كانت ومازالت يستوحيها تجار سوق "الربع" وأسواق الملابس التقليدية بالمدن العتيقة من البرامج الأسبوعية والمسلسلات التونسية مثل "ملحفة شمس الأحد" في أواخر التسعينيات نسبةً إلى برنامج تنشيطي في تلك الفترة وهي رداءٌ تونسي الصنع جاء بعد فترةٍ طويلةٍ من الركود في الإنتاج، اتّخذ من شكل الشمس والخمسة زينةً له، والشمس هي في الأصل وشم تتزيّن به المرأة الأمازيغية.
كان الردّاء اللاّمع القادم من فرنسا فخر الصناعة والتوريد رديئًا جدًّا ودخيلًا على الزيّ الشاويّ الأصلي، فقد أنتج مشهدًا مبتذلًا لامرأةٍ تتعمد إخفاء جسدها وعدم الاهتمام بجمالها ووجهها، ترتدي قميصًا قطنيًا خانقًا وألوانًا غير متناسقة كمن يحمل أضواء أعياد الميلاد على جسده، وهو نفس الرّداء الذي لبسته راقصات مسلسل "نوبة".
غزت السلع المستوردة الأسواق والمحلاّت ولم نعد نجد مثلًا قماش "الفوطة" الذي يُصنع بآلة نسجٍ خشبيّةٍ تُسمّى "النّول"، أو "العجار" و"الغطاية" و"الطرف" وهي أغطيةٌ توضع فوق الرأس وتُصنع بـ
تغيّر كلّ شيء تقريبًا ولم نعد نرى الكثير من الراقصات الشعبيّات في أعراسنا التي صارت
إضافة تعليق جديد