السينما الكويريّة الجديدة: لحظة انتهت أم تيار مستمرّ؟

للسينما دور بارز في كسر الصورة النمطية المتداولة عن المجتمعات الكويريّة.

في بداية تسعينيات القرن العشرين، ظهر اتجاهٌ سينمائي جديد، يعكس تغيّرًا جماليًا وسياسيًا  جذريًا في الأفلام الكويريّة، أطلقت عليه الباحثة والصحفية السينمائية روبي ريتش اسم "السينما الكويريّة الجديدة". تأثّرت هذه الموجة بأزمة فيروس نقص المناعة البشري (الإيدز) في الثمانينيات، وهستيريا رهاب المثلية الجنسية التي زاد انتشارها مع تلك الأزمة، ما دفع المثليات والمثليين إلى تبنّي حملات تعليمية وفنية للعمل على زيادة الوعي بهذا المرض. فبينما تجاهلت هوليوود المرض، أو اكتفت بإنتاج أفلام منخفضة التكلفة لا تنقل سوى الأفكار النمطية التي روّج لها الإعلام الأمريكي، ظهر العديد من الأفلام والفيديوهات المُستقلّة التي ألقت الضوء على حقيقة هذه الأزمة وتأثيرها على مجتمع الكوير.

كان العديد من صانعات وصنّاع تلك الأفلام والفيديوهات خلال الثمانينيات مثليات ومثليين والكثير منهن/م كن متعايشات/ين مع مرض الإيدز. ولكن اختلف كل من الأسلوب والأهداف بين صناعة الأفلام وصناعة الفيديو؛ فاختار مخرجو ومخرجات الأفلام النموذج النمطي لبطل هوليوود وبنية تقليدية لقصص أفلامهم/ن، كما ركّزوا على الجانب الإنساني فقط، وذلك لجذب أكبر قدر من الجماهير وإثارة تعاطفهم مع المصابين والمصابات بالمرض. أما صنّاع وصانعات الفيديوهات، فاستخدموا/ن أساليبًا فريدة في بناء قصة شريط الفيديو، ودمجوا/ن بين المشاهد الوثائقية والروائية، وكان هدفهم/ن الأساسي رصد انتهاكات الشرطة ضد المتظاهرات المثليات والمتظاهرين المثليين، وتوثيق ونشر معلومات أكثر حول المرض، تختلف عن تلك التي تُذاع في الإعلام، إضافةً إلى تمكين مجتمع الكوير وحثّهم/ن على العمل في الدفاع عن قضيتهم/ن.

جاءت السينما الكويريّة الجديدة متأثّرة بهذه المرحلة، واستوحت عناصرها الأسلوبية من عدة مدارس سينمائية؛ فدمجت بين عناصر الأفلام والفيديوهات الكويريّة في الثمانينيات، والسينما الطليعية، وسينما هوليوود، وحتى الأفلام الكلاسيكية. كان أغلب مخرجي ومخرجات هذه الأفلام، أفرادًا من مجتمع الكوير ودارسين/ات للسينما بشكل أكاديمي. فعلى سبيل المثال، درست المنتجة كريستين فاتشون، والتي تُدعى أحيانًا "الأم الروحية" للحركة، النظرية السينمائية والدراسات الثقافية في جامعة براون. وانعكس ذلك على أفلام السينما الكويريّة الجديدة، فاستخدم العديد من المخرجين والمخرجات نظرية ما بعد الحداثة ونظرية الكوير كأسس بنائية لأعمالهم/ن.

وصف العديد من النُقاد والناقدات، من بينهم روبي ريتش، هذه الأفلام بأنها ساخرة وغاضبة وصادمة1 ، فعلى عكس الأفلام الكويريّة الهوليوودية المُستقلة في الثمانينيات والتي كانت تتجنب إزعاج أو صدم الجمهور غير المعتاد على الثقافة الكويريّة، مثل فيلم قلوب الصحراء (1985 ,Desert ،(Hearts كانت الأفلام الجديدة زاخرة بالتابوهات الاجتماعية وقضايا الجندر والجنسانية، كما كانت تحتفي بالجنسانيات الكويرية المختلفة، وتُجسد العلاقات الحميمية والجنسية الكويرية بجرأة. بالإضافة لذلك، نفر المخرجون والمخرجات من تجسيد الشخصيات البسيطة التي تحظى دائمًا بالنهاية السعيدة النمطية ذاتها، وآثروا رسم شخصيات معقّدة، تعكس طبيعة الجندر والجنسانية، وترفض فكرة وجود شكل "صحيح" للسلوك والهوية المثلية.

لم تكتف مخرجات ومخرجو السينما الكويريّة الجديدة بتفكيك المفاهيم ذات النزعة الجوهرية حول الجنسانية والتركيب الاجتماعي للجندر فقط، بل عملن/وا على تحطيم التصنيفات السينمائية، فارتكزت الأسس البنائية لأفلامهن على الدمج بين التصنيفات والأنماط السينمائية المختلفة، ويرجع ذلك، إلى أن هدفهم الأساسي لم  يكن تسلية الجمهور، بل دفعه إلى التفكير في الوسائل التي تستخدمها المخرجات والمخرجون لإيصال فكرتهم، وكيف أن البنية الأسلوبية للفيلم تؤثّر على فهمنا لمعناه. على سبيل المثال، يتألّف فيلم "السُم" (1991 ,Poison) من ثلاث قصص مختلفة متشابكة تُحكى كل منها بأسلوبٍ سينمائي مختلف، مما يجعل المُشاهد والمُشاهدة يقارنان بين الأساليب والمواضيع الثلاثة، فيستبطنا منها أنواع تلك "السموم" التي تملأ المجتمع.

كما عمدت المخرجات والمخرجون على دمج الشخصيات والأحداث التاريخية بالخيالية. على سبيل المثال، يحكي فيلم "إدوارد الثاني" (Edward II, 1991)، المُقتبس عن مسرحية كريستوفر مارلو، عن العلاقة العاطفية والجنسية بين الملك إدوارد الثاني وبيرس جافستون، بهدف خلق مقارنة بين رهاب المثلية الجنسية في عصر الملك إدوارد وفترة التسعينيات. كما كان يوجد نزعة سياسية في حبكة العديد من الأفلام، فنرى في فيلم "الإغماء" (Swoon, 1991)  تأثير أصحاب السلطة على خلق مفاهيم وتاريخ الجنسانية، بما يفيد مصالحهم السياسية.

بالرغم من الإشادة النقدية بأفلام  السينما الكويريّة الجديدة، وفوز العديد منها بجوائز تقديرية في المهرجانات الدولية، اختلفت ردود الأفعال حولها؛ حيث انتقدها بعض النقاد والناقدات بسبب انحيازها للرجال ووجود محتوى تمييزي وعنصري بها. فخلال الموجة الأولى، تعرّضت الأفلام الكويريّة التي صنعتها النساء و الأشخاص الملوّنون للتهميش، وتجاهل المنتجون الأفلام التي تتناول قضاياهن/م. على سبيل المثال، بالرغم من النجاح التجاري والنقدي لفيلم "باريس تحترق" (Paris is Burning, 1990)، لم تستطع مخرجة الفيلم، جينيت ليفينجستون، عمل فيلم طويل آخر.

 

2 وكرد فعل على الاتهامات بعدم وجود موازنة جندرية وإثنية لأفلام السينما الكويريّة الجديدة، بدأ عددٌ من المنظمات والمنتجات والمنتجين الكويريّين/ات بترويج أفلام المخرجات الكويريّات والملوّنات، مثل فيلم "وواترميلون وومان" (Watermelon woman, 1995) وفيلم "الأسود .. ليس أسود" (1994 ,Black is.. Black Ain’t).

 

أما الجماهير، فاختلفت وجهات نظرها أيضًا؛ فوجد البعض تلك الأفلام مملّة ودسمة فكريًا بشكل مبالغ فيه، وبالتالي موجّهة للنخبة فقط. أما البعض الآخر فوجدها تُكرّس الصورة النمطية التي تربط المثليّة الجنسية بالجريمة والسيكوپاتية. ولكن، كان رد النقاد والناقدات على هذا الاتهام، بأن المخرجين/ات تطرّقوا/ن إلى هذا الجانب لتناول نتيجة الكبت الجنسي، وهي تحوّل الأفراد إلى شخصيات عنيفة وغير سوية. وقال مخرج فيلم "الإغماء" (Swoon, 1991)، الذي يتناول حياة رجلين كويريين قاما بقتل صبي صغير لمجرد المتعة: "أردت أن أصوّر شخصيتين مثليتين لديهما سلوك مرضيّ، وليس شخصيتين لديهما مثليّة مرضيّة".

وأثارت هذه الموجة الفيلمية غضب السياسيين المحافظين اليمينيين، ووصفوها بأنها بورنوجرافيا تافهة. وعبّر عضو مجلس الشيوخ، جيس هيلمز، عن سخطه بأن أموال دافعي الضرائب تُستخدم لإنتاج، ما شعر أنه، "قذارة ذات محتوى جنسي صريح". وبالرغم من تلك المقاومة، وربما بسببها أيضًا، ازدهرت هذه الأفلام؛ فلعب هذا الجدل، حول ما إذا كان يجب تمويل أو إيقاف هذه الأعمال، دورًا كبيرًا في انتشارها وشعور الناس بالفضول تجاهها.
 

وبالرغم من أن الجدل ما يزال قائمًا حول ما إذا كانت السينما الكويريّة الجديدة "لحظة" في تاريخ السينما، انتهت بحلول سنة 2000، أم أنها موجة أو حتى تصنيف سينمائي مستمرّ إلى يومنا هذا، إلا أنها حتمًا كسرت التمثيل السينمائي التقليدي للمجتمع الكويري، وفتحت الباب أمام  نهضة راديكالية لسينما كويريّة واعية داخل وخارج الولايات المتحدة.


المصادر باللغة الانكليزية:


Benshoff, Harry M, and Sean Griffin. A History of Gay and Lesbian Film in America. 2005.

McDonald, Kevin. Film Theory: The Basics. 2016.

Rich, B. Ruby. New Queer Cinema: The Director’s Cut. 2013.

  • 1Rich, B. Ruby. New Queer Cinema: The Director’s Cut, p.15. 2013
  • 2Benshoff, Harry M, and Sean Griffin. Queer Images: A History of Gay and Lesbian Film in America, p.240-241. 2005.

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.