هل كانت الرسائل في حياة كافكا وكنفاني وهيدغر، صورًا أدبية وتجريدًا فلسفيًا، أم هي الوجه الآخر للإنسان العاري أمام قوة الحب؟
في اللحظة التي يُحمَل فيها القلم للكتابة يبدأ الحب صراعه مع البياض ومع الحقيقة، فتأتي الكلمات بغموضها وبَيانِها لتعطي الحكاية مَعناها وسَرابها. وعبر رحلة بريدية يُهاجر الحب مثل فرح شريد إلى ليل المُحبين، فتبدد الرسائل انتظارًا مؤقتًا، تاركة وراءها انتظارًا آخر في الطريق. كان الروائي التشيكي فرانز كافكا يقول لحبيبته ميلينا في إحدى رسائله "إن شوقي لاستلام رسائلك يتحوّل إلى هوس"، وبنفس الهوس والشوق كان الأديب الفلسطيني غسان كنفاني يهمِس لغادة السمّان "إنني أذوب بالانتظار كقنديل الملح". أما "قرصان البحر"1 ، الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، فقد جعل من الانتظار لحظة يتكثّف فيها الحضور العميق لكينونة المُحب، إذ كان يقول لحنة آرندت في رسائله "إن إمكانية الانتظار بالنسبة للمحب هي أجمل شيء، ذلك أن المحب يكون فيها حضورًا/ حاضرًا".
من سوء الحظ أن التاريخ لم يؤمّن النجاة لرسائل ميلينا وغادة السمان وأتلَف معظم رسائل حنة إلى هيدغر - خصوصًا تلك التي كتبتها بين 1925 و1933، وهي أهم مرحلة في علاقتهما - إلا أن ملامحهن وأساطيرهن وأشباحهن تسكن في جذور الحكاية وفي فروعِها. وفي الأثناء يدق سؤال مُربك ومحتوم، ما الذي كانت تعنيه تلك الرسائل؟ هل كانت مجرد خيالات وأشباح صَنعتها البلاغة والاستعارات، أم هي الامتداد الحِبري لعاطفة إنسانية نبيلة وغامضة ومُوجِعة؟ هل كانت الرسائل في حياة كافكا وكنفاني وهيدغر، صورًا أدبية وتجريدًا فلسفيًا، أم هي الوجه الآخر للإنسان العاري أمام قوة الحب؟ لا شيء يبدو محسومًا سلفًا، خاصة عندما يتعلق الأمر بإنسانية الإنسان وبكِيانه الداخلي المستعصي عن التحديد الموضوعي، ولكن تفاصيل المُحبين ونداءاتهم الخارجة من متن الرسالة تُعطي للحكاية شكلها الخاص والفريد، فيمتزج الفكر بالحب وبالشهوة، ويلتحم اللقاء بالوداع في رحلة دائرية لا تنتهي.
كافكا: المتحرر من الخوف، العائد إلى عزلته الأبدية
كان لقاء ميلينا بفرانز كافكا خاطفًا في البداية، حين عَرَّفها زوجها "إرنست بولاك" بكافكا في مقهى "أركو" بمدينة براغ قبل أن تغادرها إلى فيينا. شرَعا في تبادل الرسائل بشكل متواتر عندما قامت ميلينا بترجمة كتاب كافكا "الفحّام" إلى اللغة التشيكية سنة 1920، وسرعان ما تحولت العلاقة المهنية إلى هوس وشغف كبيرين، وأمل في انتظار رسائل جديدة. تجلت ميلينا في رسائل كافكا، امرأة غريبة وشجاعة، تكتب بالحبر والرصاص. تُسعِده رسائلها الرقيقة والمسالمة مثل "مطر ينزل فوق رأس محترق"2 ، وتُخيفه رسائلها الحادة فيشعر أنه جالس تحت ناقوس الخطر، فلا يتمكن من إكمال القراءة، وحين يعود إلى القراءة تنتابه موجةٌ من الخوف لا يستطيع مقاومتها. هكذا تلوح ميلينا مثل إعصار قوي، يصلّي كافكا من أجل إخماده لأنه لا يستطيع أن يترك عاصفة في غرفته. لكن هذا الإعصار حرّر فرانز من أسر الخوف، ووَهبه قدرة جديدة على الحياة. دونها لم يكن قادرًا على مواجهة الخوف والعزلة، فقد كتب إلى ميلينا في إحدى رسائله "أنت تبدين كأنك قوة مانحة للحياة، وها أنا أقل فزعًا مما كنت عليه في السنوات السبع الماضية".
ترتحل ملامح ميلينا من فيينا إلى براغ مُهرَّبة في برقيات البريد وفي مظروفات الرسائل مثل قديسة، تتسرب إليه عبر الكلمات فيشعر وكأنه يراها، تبدو له الرؤية حلمًا واقعيًا، يَسرد كافكا تفاصيل لقاء حار منسوجٍ بمخيال العاطفة؛ "شعرك ينسدل على وجهك، وأنا أرفعه عن وجهك، أتحسس وجهك وجبينك بيداي، وها أنذا أضع وجهك بين راحتي". ثم يأتي اللقاء الحقيقي الأول بينهما –الذي دام لأربعة أيام منقوصة- عندما زارها في فيينا. هذا اللقاء الخرافي الذي عَبَر مثل السّحر أيقظ في فرانز شعورًا عميقًا بالفقدان، وبعد أن تختفي ملامح ميلينا في محطة القطار يكتب لها أثناء عودته إلى براغ؛ "أشعر كأنني أفقدك...ما يجعلني أفكر هكذا هو القرب الجسدي القصير الذي كان بيننا، والفراق الجسدي المفاجئ بعده".
كانت تفصل فيينا عن براغ أمواجٌ عاتية، جدارٌ بحري صلب يقوّي الاعتقاد بأن ميلينا وفرانز لن يعيشا معًا في شقة واحدة ولا في مدينة واحدة، فيتحول الحب إلى تابوت مظلم، لا ضوء فيه سوى ذكرى الأيام والساعات القليلة التي أمضياها معًا في فيينا. رغم ذلك يتعاونان وكأنهما معًا، تتابع ميلينا بقلق حالته الصحية وتزوره أثناء مرضه الأخير، ويرسل لها كافكا المال عندما تحتاجه، ويتابع باهتمام ما تكتبه في مجلات الموضة، ويقلق كثيرًا بشأن صحتها. ورغم أن فرانز يتحاشى في رسائله الحديث عن زوج ميلينا، إلا أنه كان يرسم حدودًا لدوره وموقعه، فكتب لها في إحدى الرسائل "في جو حياتك معه [زوجُك] أبدو كفأرٍ في منزلٍ كبير، يُسمَح له أن يجري فوق السجاد العتيق مرةً في السنة".
كان كافكا يحمل فوقه جبلا من الحب والخوف والحزن، وصار الجبل يثقل على رأسه يومًا بعد يوم. تدخل الرسائل خريفها المر، فتصبح الكلمات مثل الأشباح التي تمتص روح الإنسان، فيقول عنها كافكا: "السهولة في كتابة الرسائل قد جلبت الدمار إلى أرواح الناس، كتابة الرسائل هي لحظات من تلاقي الأشباح فهي استحضار لشبح المتلقي وشبح المرسِل ليتجسدا في كلمات الرسالة...القبلات المكتوبة لا تصل إلى وجهتها، فالأشباح تتشرّبها وهي في طريقها إلى هناك، وبهذه الطريقة تتغذى الأشباح وتتكاثر". ثم يبدأ في الإلحاح على ميلينا أن يكفّا عن كتابة الرسائل؛ "السحر الشيطاني للرسائل بات يدمّر الليالي...أرجوك دعينا لا نكتب بعد الآن".
غسان كنفاني: المنفيّ مرّتين
"إن الإنسان ليس إلا مخترع ملاجئ"، هكذا كان يقول غسان كنفاني، فهل كانت غادة السمان ملجأ اخترعه باختياره، مثلما كانت بيروت ملجأه الاضطراري؟ يبدو أن القدر سَطّر لكنفاني أن يلجأ إلى المنفى مرتين، "هاربًا أو مرغمًا على الفرار من أقرب الأشياء إلى الرجل، وأكثرها تجذرًا في صدره: الوطن والحب"3 . كان يُحس بغادة تسري في جلده مثلما يتحسّس يَافَا التي غادرها وهو طفلٌ في العاشرة من عمره أثناء النكبة الفلسطينية سنة 1948. يلوح من خلال الرسائل أن بداية العشق الكنفاني تعود إلى أواسط الستينيات، قبل هزيمة 1967 بسنة أو أكثر، حكاية حبٍّ تعمّدت بالمطر البيروتي الأحمر ثم تدثّرت بضباب لندن الكثيف، عندما قررت غادة السمان الذهاب إلى منفاها الاختياري هناك. وفي الأثناء يغرق غسان في انتظاريته وشوقه وخوفه من الفقدان، فيكتب لها في إحدى رسائله: "أنتظرك وسأظل أريدك وأنتظرك، وإذا بَدّلكِ شيء ما في لندن ونسيت ذات يوم اسمي ولون عينيّ، فسيكون ذلك مُوازٍ لفقدان وطن".
يرسم غسان خريطةً لملامح غادة ومشاعرها وقلقها وكبريائها، هي الصبية الفاتنة والموهوبة التي تملك قدرةً على إدراج أسماء الرجال بسهولة في قائمة التافهين، فيكتب عنها في إحدى رسائله "إنها تحبني وتخشى إذا ما اندفعت نحوي أن أتركها مثلما يحدث في جميع العلاقات السخيفة بين الناس، وتخشى إذا ما ذهبت في علاقتنا إلى مداها الطبيعي أن نخسر بعضنا. ولكن يا فائزة هذا كلام كتب ومُدرّسي حساب وليس عواطف امرأة أمام رجل يحبها وتحبه"4 . ولكن كيف كان ينظر الحبيبان إلى علاقتهما، خصوصًا وأن غسان متزوج وله طفلان؟ يقول كنفاني بأن كليهما استسلم للعلاقة بصورتها الفاجعة والحلوة ومصيرها المعتم والمضيء، وأنهما تبادلا خطأ الجبن؛ "أما أنا فقد كنتُ جبانًا في سبيل غيري، لم أكن أريد أن أطوّح في الفضاء بطفلين وامرأة لم يسيئوا إليّ قط، مثلما طوّح بي العالم القاسي قبل عشرين عامًا، أما أنتِ فقد كان ما يهمك هو نفسك فقط… كنتِ خائفةً على مصيرك وكنت خائفًا على مصير غيري". ربما هذا الكلام هو الذي جعل غادة تُعلّق على إحدى رسائله قائلة: "كنتُ حريصة على كيانه العائلي بقدر حرصي على استقلالية كياني".
رغم الغربة والبعد والصمت والخوف من المواجهة، يظل غسان يقتات على ذكراها، فقد دخلت غادة إلى عروقه وانتهى الأمر، ويتحول الحب في نظره إلى إيمان؛ "مثلما يؤمن الأصيل بالوطن والتقيّ بالله والصوفيّ بالغيب، لا كما يؤمن الرجل بالمرأة". كان غسان كنفاني مثل فارس جاهليّ "يؤمن بكأس النهاية، يشربه وهو ينزف حياته". وتستعيده غادة حيًّا بعد عقدين من استشهاده –بعد تفجير سيارته من قبل عملاء للموساد الإسرائيلي ببيروت سنة 1972- فتقول إنها ظلت تقرأ رسائله وأنه لم يهدأ عن قرع باب ذاكرتها وجرّها من يديها إلى التسكع تحت المطر، ثم تُلخصّه في سطرين "لم يكن ثوريًا فصاميًا، كان حقيقيًا وأصيلا في كل ما يفعله، وكان الانسجام قائمًا لا بين فكره والعالم الخارجي فحسب، بل بين فكره وجسده"5 .
مارتن هيدغر وحنة آرندت: اشتباك الحب بالفلسفة
كانت الفلسفة هي التي جمعت مارتن هيدغر بحنة آرندت في سنة 1924، من ضلع الحكمة وُلدت علاقة متشابكة الأبنية بين فيلسوف "الكينونة والزمان"، الأستاذ الشاب الذي بدأ يذيع صيته في ألمانيا وفي أوروبا، وبين الطالبة الفتية التي استدرجها سحر الفكر إلى جامعة ماربورج، وستصبح هذه الشابة فيما بعد من ألمع الوجوه النسائية في الفلسفة السياسية خلال القرن العشرين. وسيظل الحب بدوره مؤثرًا في الفلسفة وملهمًا لها، حيث كان موضوع رسالة دكتوراه آرندت التي أشرف عليها الفيلسوف كارل ياسبرس؛ "مفهوم الحب عند القديس أوغسطين"، وليس مستبعدًا أن يكون هذا الخيار مستوحى من الرسائل التي تبادلتها مع هيدغر، فقد كتب لها في إحداها: "كون المرء محبًّا هو أن يكون موغلا في أعمق وجوده. الحب يعني الإرادة، أوتسيس UTSIS، كما قال أوغسطين مرة"6 .
كتبت حنة في إحدى رسائلها إلى هيدغر؛ "سأفقد حقي في الحياة لو فقدت حبي لك...وإذا كان الله موجودًا، فمن الأحسن أن أحبك بعد الموت". كان الحب في نظر الشابة الحالمة مرادفًا للحياة والبعث الجديد، ولكن "حورية الغابة"7 كانت تريد حبًّا يتحدى الاستحالة مع هيدغر، الذي أحبها بلا شك واعتبرها قوة فاعلة في حياته للأبد ولكنه "رفض بصرامة تغيير مجرى حياته لأجلها"8 ، ولم يتخلى عن زوجته ألفريدا وطفليه –التي يُشبّهها الكثير من النقاد بأخت نيتشه بسبب تسلطها- وقد وصف هيدغر في إحدى رسائله الانشطار الذي كان يعيشه "إنني محتاج إلى حبها [ألفريدا]، فقد تحملت في سنوات طويلة وبقيت مستعدة للتطور. إنني محتاج إلى حبكِ الذي احتفظت به في نبتته الأولى كسرٍّ، وهذا ما جعله عميقا".
مع بداية المدّ النازيّ في ألمانيا رحلت حنة سنة 1935، خوفًا من حبّ منقوص وهربًا من البطش النازيّ، مرت بباريس ثم سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تزوجت مرّتين، في الأولى لم يكن هناك حبّ وفي الثانية قالت إنها أحبت الفيلسوف الألماني هاينريش بلوخر الذي التقته في باريس سنة 1936 وتزوجته ليسافرا معًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الأثناء كان هيدغر محسوبًا على الحزب النازي، ولم يكف أيضًا عن "فتوحاته الإيروتيكية"9 التي جرّت وراءها الكثير من العشيقات التي كانت زوجته ألفريدا على علم بها، ولكنه كان دائمًا يقول إن آرندت هي "عشق حياته". وبعد أفول شبح النازية، عادت حنة في سنة 1950، مثل نار بروميثوس، لتمد الفينيق بالخلود إثر مصارعه القاتلة، فقد تخلى عن هيدغر أصدقاؤه واختار العزلة والابتعاد عن الناس إثر القضاء على النازية. وهكذا عادت العلاقة القديمة بعد أكثر من 15 سنة - تحت إشراف زوجته ألفريدا وبتشجيع من زوج آرندت - وخلال فترة الستينات والسبعينات لعبت حنة دورًا كبيرًا في فك عزلة هيدغر، فقد ساهمت في التعريف بكتبه في الولايات المتحدة، واعتنت بتنسيق ترجمات مؤلفاته، إلى أن توفيت في سنة 1975 وتلاها هيدغر في السنة الموالية.
- 1"قرصان البحر"، هو لقب أعطته حنة آرندت لمارتن هيدغر.
- 2فرانز كافكا، رسائل إلى ميلينا، ترجمة هبة حمدان، دار الأهلية، الأردن، 2017.
- 3رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، ط2، بيروت: دار الطليعة، 1993 (قدّمت لها غادة السمان).
- 4هذه الرسالة كتبها غسان كنفاني إلى شقيقته فائزة التي يحبها كثيرًا، ولكنه في نهاية المطاف سلّمها إلى غادة السمان.
- 5مقتطف من المقدمة التي كتبتها غادة السمان عندما نشرت رسائل غسان كنفاني.
- 6رسائل حنة آرندت ومارتين هيدغر 1925-1975، تعريب وتقديم حميد لشهب، ط1، بيروت: جداول، 2014.
- 7"حورية الغابة" لقب أعطاه هيدغر لحنة آرندت.
- 8ماري لومونييه وأود لانسولان. الفلاسفة والحب (ترجمة دينا مندور)، ط أولى، القاهرة: دار التنوير، 2015.
- 9العبارة لحميد لشهب، خلال تقديمه لترجمة رسائل حنة آرندت ومارتين هيدغر.
إضافة تعليق جديد