كيف كان طه حسين يتعرّف إلى الناس؟ وماهي الحوامل التي كانت تُحدث في داخله إحساسا بالجنس الآخر؟
"الغريب من أمره وأمرها أنها كانت تؤذيه في دخيلة نفسه وأعماق ضميره. كانت تؤذيه سرّا ولا تُجاهره بالخصومة والكيد"1 ، هكذا يُلخّص الأديب المصري طه حسين صراعه السرّي مع العَمَى، صراعٌ يصعد إلى الداخل مثل عالم طه اللامرئي الذي ظلّت الكثير من تضاريسه محجوبة في الأعماق، رغم أن صاحبها أفاض على العالم الخارجي بعبقرية استثنائية قَلّ أن جَادَت بها الأزمنة العربية الحديثة. أعطَى طه حسين لوطنه والأمة العربية والعالم أكثر ممّا أخذ منهم. خلف الشخصية المثالية، المنغمسة في معاركها الفكرية والحياتية، كانت هناك شخصية أخرى، تُنمّي غُربتها الداخلية في صمت وتُحب من خلف الستار، تُعبّر في حياء عن أحاسيسها وغرائزها، وربّما يُلغيها طه حسين بنموذجيته وتعاليه في الكثير من الأحيان.
دأبت الكثير من الدراسات النقدية على رصد تأثير العَمى في جماليات الأسلوب والمضمون الأدبيين لدى طه حسين وفي حياته الفكرية بشكل عام، في حين جاء الاهتمام قليلا بطه حسين الإنسان، المُجرّد من مثالياته وأخلاقه الاجتماعية، الباحث عن ذاته وغرائزه الجنسية وعواطفه، السّائل بحرقة عن الحبّ والنساء كلما حدّثه رفاقه عن مشاكلهم العاطفية، حيث يحدثنا في "أيامه" عن هذه الحيرة؛ "وإذا صاحبنا يصبح قاضيا بين رفاقه في شؤون الحب، وليس له أرب فيه ولا سبيل إليه. وأنّى له بشيء من ذلك وهو المكفوف الذي لا يحسن شيئا حتى يعينه عليه مُعين، وهو لا يرى وجوه الحِسان، ولا يعرف كيف يتحدث إليهن، أو كيف يبتغي إلى رضاهن الوسائل"2 . كثيرًا ما يسعى طه حسين إلى إضمار رغباته وعواطفه، مثلما لاحظ ذلك الناقد والروائي التونسي شكري المبخوت، عندما أشار إلى أنّ "الأحاسيس الإنسانية التي برزت في النص سرعان ما استحالت إلى مواقف معرفية، وانقلب العاطفي عقليًا لأن مدار "الأيام" على سيرة البطل الفكرية أساسًا وما عداها تفاصيل تَعظم أو تقل أهمية ولكنها في كل الحالات تضعف أمام الجانب المعرفي والذهني"3 . ولكن طه لا يُقفل كل الأبواب والسبل المؤدية إلى الإنسان داخله، ليظلّ السؤال حول تمثّلاته الجنسية مفتوحًا وممكنًا، بما تعنيه هذه التمثلات من إدراك للجنس الآخر وتعبير عن الحبّ والعواطف أو كتمان لها.
الصوت: حامل جنسي وجسر إلى الحب
كيف كان طه حسين يتعرّف إلى الناس؟ وماهي الحوامل التي كانت تُحدث في داخله إحساسا بالجنس الآخر؟ يقدم لنا طه بعض الإجابات عن هذه الأسئلة، فيقول لنا بأنّ الناس كانوا بالنسبة إليه "هم الناس الذين يسمع أصواتهم، ويحس بعض حركاتهم، ولكنه لا يراهم ولا ينفذ إلى ما وراء هذه الأصوات التي كان يسمعها والحركات التي كان يحسها"4 . هنا يظهر الصوت بوصفه دليلا إلى العالم الخارجيّ وباعثًا على الإحساس بالأشياء وبالآخرين، وقد كان الصوت أيضا قوّة حسيّة استنهضت غرائز طه حسين وعواطفه، وأحدثت فيه اندهاشًا برِقّة المرأة وتميّزها، كان ذلك عندما كان طالبًا في الجامعة المصرية وأنصت لأول مرة لصوت الشاعرة مي زيادة، فـ"اضطرب له اضطرابا شديدا وأرق له ليلته تلك"، ثم يصفه قائلا "كان الصوت نحيلا ضئيلا. وكان عذبا رائقا. وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ منه في خفة إلى القلب فيفعل به الأفاعيل. ولم يفهم الفتى من حديث ذلك الصوت العذب شيئا. ولم يحاول أن يفهم من حديثه شيئا. شغله الصوت عمّا كان يحمل من الحديث"5 . لم يكن المضمون الشعري هو المهم بالنسبة إليه، بل تجاهلَه من أجل التوحّد الحسّي مع الصوت وخَلق عذوبة داخلية نادرًا ما يحصل عليها طه الكفيف في مجتمع لا تُتاح فيه كثيرًا فرص الاختلاط الجنسيّ. وبنفس هذا الإعجاب والانبهار يتحدث طه حسين الكَهل عن صوت المغنية الأمريكية هاريان أندرسون، فيقول "لا تكاد ترفع صوتها بالغناء حتى تنشر من حولها ضياء باهرا وجمالا ساحرا وفتونا يختطف القلوب ويستهوي النفوس ويعبث بالألباب، قد جمع صوتها خصائص الضوء والظلمة وخصائص الصحراء المُحرقة والرياض التي يشيع فيها الروح والريحان والراحة والنعيم. فيه قوة تصور الشمس في عنفوانها وقد استوت في أفق السماء ملكة على ما حولها من الكون"6 .
وعندما أحب سوزان بريسو التي تعرّف عليها أثناء إقامته في فرنسا سنة 1915، كانت بالنسبة إليه صوتًا، وكان في كتاب "الأيام" يُطلق عليها "صاحب الصوت" أو "ذلك الصوت"، ويصف طه حسين دهشته الأولى بصوت سوزان قائلا: "سمع الفتى ذلك الصوت يقرأ عليه شيئا من شعر راسين ذات يوم، فأحسّ وكأنه خُلق خلقا جديدا، ومنذ تلك الساعة التي سمع فيها ذلك الصوت لم يعرف اليأس إلى نفسه سبيلا"7 . ستصبح سوزان فيما بعد زوجته وأم طفليه، أمينة ومؤنس، وسيُقضّى معها كل حياته. وهي التي جعلته يتخلى عن مذهب مَثَله الأعلى في الحياة، أبي العلاء المعري، في العزوف عن الزواج، وطردت عنه الظلمة والتشاؤم واليأس والقنوط. ولئن كان طه حسين لا يحدثنا كثيرًا عن حياته الحميمية مع سوزان، حتى أنه يتكلم عن عطلة زواجهما بكل برود ليقول أنهما قضّياها في الاستعداد لامتحانات جامعة السوربون، فإنّ سوزان تنقل لنا في مذكراتها بعض ما يكتبه لها طه حسين كلما سافرت من القاهرة إلى مدينة أخرى أو كلما عادت إلى فرنسا، وهنا تحل "اليد" إلى جانب "الصوت" في علاقة الحبيبين، لتقول بأنه حتى على فراش الموت كان يقول لها "أعطني يدك"، ومن المقتطفات التي نقلتها سوزان أن طه حسين كان يقول لها "ثم إنك تعلمين جيدا أنني كثيرا ما لا أقول شيئا، وإنما أتناول يدك وأضع رأسي على كتفك"8 ، ويقول لها في موضع آخر "أمنعك من أن تكوني حزينة، آمرك بالابتسام...أما الآن فتعالي إلى ذراعي، أحبك حتى نهاية الحساب".
طه حسين: غربة الجسد وتَمثّل الرقابة الاجتماعية
الإحساس بالعزلة وفقدان الحنان، الصدامات الطفولية الأولى مع الوالدين والإخوة، الخوف المتعاظم من الوحدة والعفاريت ومن نسيان القرآن والألفية، مضافٌ إلى كل ذلك عدم الثقة في بيئة النشأة، التي كانت سببًا في الظلمة الحسّية التي عاشها طه حسين. كل هذه الأشياء شكلت شخصية الطفل التي حاول دائمًا طه حسين الهروب منها وإبراز تجاوزها بكفاحيته الخاصة عبر تحقيق المجد المعرفي، ولكنها تركت نُدوبها على الجسد والوجدان، فقد كان طه حسين يغطّي رأسه أثناء النوم خوفًا من "العفاريت"، وكان يخشى الظهور عاريًا أمام الآخرين، حرّم على نفسه سنوات كثيرة بعض الوجبات التي تؤكل بالملاعق مثل الأرز لأنه لم يكن يجيد الأكل بالملاعق فكان يخشى سخرية الآخرين منه، وحتى أثناء ذهابه إلى فرنسا كان يشترط على عائلة سوزان التي استقبلته في منزلها أن يأكل منفردًا، وفي هذا الصدد يقول لنا طه حسين "وكان قرأ فيما قرأ من أحاديث أبي العلاء أنه كان يقول: إن العمى عورة وفهم هذا كما فهمه أبو العلاء نفسه. فكان يتحرج في كثير من الأشياء أمام المبصرين. وكان يستخفي بطعامه وشرابه كما كان يستخفي بهما أبو العلاء حتى لا يظهر المبصرون منه على ما يثير الإشفاق، والرثاء أو السخرية"9 .
كان طه حسين ومُجايليه من المبصرين في النصف الأول من القرن العشرين، يحيون في مناخ اجتماعي تطبعه الرقابة الاجتماعية؛ رقابة على الجسد، على الأخلاق، على أبسط العادات اليومية مثل الأكل والمشي والجلسة والملبس. وقد كان على وعي بذلك حيث يصف أصدقاءه المحافظين من طلبة الأزهر أنهم "خَلقوا لأنفسهم مُثلا للجمال يتغزلون فيها ويشبّبون بها، ولم يكن للمحافظين منهم بدّ من أن يخترعوا مثلهم العليا اختراعًا. فقد كانت الحياة تحول بينهم وبين لقاء الغواني"10 ، وربما طه حسين نفسه قد خلق عالمه الخاص بسبب امتناع مزدوج؛ العَمى والرقابة الاجتماعية، فقد كان كلِفًا بـ"تعقب أخبار الزنادقة والفسّاق والمجّان وأهل الخلاعة من شعراء العرب (كما في حديث الأربعاء)، وتلخيص القصص التي تدور على الخيانات والزنى وما إليها (كما في قصص تمثيلية)، وكأنه يحاول أن يقول بلسان الآخرين ما تلح به الرغبة في الكشف عنه والإفضاء به من مكنونات نفسه"11 .
المثالية: هل كانت تعويضًا عن حرمانٍ قديم؟
كيف كان طه الإنسان يُعالج الحرمان من البصر واللذة والطبيعة؟ ربما هو جدل التعويض الذي كان يمنح الكفيف قدرة على الاستعاضة عن العالم الخارجي بالانهماك في تنمية إحساسه الداخلي، وبالهروب من المحسوسات إلى المُثل والنماذج السامية. ولعل مثالية طه حسين كانت في جانب منها تعويضًا إنسانيًا عن الحرمان والمكبوتات التي كان يفرضها مجتمع غارق في الخرافة والغيبيّات، وقد كان متساميًا ونموذجيًا في أعماله وفكره وصدقه المهنيّ، إلى درجة يصبح فيها مفهومُ التصعيد الفرويدي، ذا قيمةٍ نسبية إذا طُبّق على حالة طه حسين، وخاصة في الفكرة التي تشير إلى أن التسامي أو التصعيد يتم بواسطته "تحقيق إنجازات عديدة سواء في الميدان الاجتماعي أو الثقافي أو الفني. وبشكل آخر، يمكننا القول بأن الغايات الأسمى للإنسانية إنما هي ما يتحقق من خلال الغايات الجنسية المّصعدة"12 .
من جهته يشير الأستاذ شكري المبخوت –في دراسته التي أشرنا إليها سابقًا- إلى أن طه حسين كَسر فكرة العودة إلى الطفولة المفقودة، فهو لم يرضخ من وجهة نظر المبخوت إلى "الإيديولوجية العميقة في ذهن الإنسانية، وهي الإيديولوجة القائلة، سواء في الأساطير أو في بعض كتابات الرومنطيقيين وفي التحليل النفسي، بالانحدار من جنة الطفولة. فهو لا يبحث عن جنة مفقودة يستعيدها بل يسعى إلى جنة منشودة بكل ما أوتي من قوة". وبالفعل كان طه حسين يتجه دائمًا نحو الحاضر والمستقبل، جاعلا من ماضيه الذاتي والموضوعي سِياجًا، سعى ذلك الطفل الضرير والمنبوذ إلى تجاوزه للأبد.
- 1 طه حسين، الأيام، دار المعارف، 2008، ص 299.
- 2الأيام، ص: 289.
- 3شكري المبخوت، سيرة الغائب سيرة الآتي: السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين، ط3، تونس: مسكيلاني للنشر، 2015.
- 4الأيام ص: 317
- 5الأيام، ص: 238
- 6طه حسين، من لغو الصيف إلى جد الشتاء، بيروت: دار العلم للملايين، ط6، 1979
- 7الأيام، ص: 290
- 8سوزان طه حسين، مَعَكَ، (ترجمة بدر الدين عرودكي)، ط1، مصر: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2015.
- 9الأيام ص: 300
- 10الأيام، ص: 228
- 11جوزف طانيوس، الحب والموت من منظور السيرة الذاتية بين مصر ولبنان، ط1، بيروت: دار المشرق، 2009
- 12ميشال هار، الجنس والوعي الأخلاقي في نقد التحليل النفسي الفرويدي (ترجمة حسن أوزال)، ط1، المغرب: مركز الأبحاث الفلسفية، 2007
إضافة تعليق جديد