كنت في عمر يناهز الـ24 أو الـ25 سنة عندما اكتشفت حقيقة حالة عينيّ، وهو ذات السنّ تقريبًا الذي بدأت أتقبّل فيه توجّهي الجنسيّ وهويّتي الجندرية.
وُلدت مع تشوّه خُلُقي في الشبكيّة في كلتي عينيّ. وبعد سنوات من البحث وزيارات عديدة لأطبّاء مختصّين اكتشفت أنّني مُصابة بنوع غير مألوف من
دون الدخول في تعقيدات اللغة الطبية، تعني حالتي أنّ الرؤية المركزية لديّ شبه معدومة، ولا يمكنني الاستفادة من ذلك الجزء المركزي من مجال الرؤية عند النظر مباشرة إلى الأمام. في الحالات الطبيعية، من المفترض أن يمنح هذا الجزءُ المرء نظرًا مفصّلًا وفي غاية الدقّة؛ إمكانية القراءة بأريحيّة، والقدرة على تحديد الوقت على ساعة معلّقة في الجهة المقابلة من الغرفة، وقيادة سيّارة، وتمييز وقراءة تعابير وجوه الأشخاص الواقفين على بُعد أكثر من نصف متر. لكن كلّ ذلك غير مُتاح لي. لا يمكنني الاعتماد إلّا على الرؤية المحيطية التي، على الرغم من تأثرها بحالتي، لا تزال جيدة بما فيه الكفاية للسماح لي بمراقبة العالم بشكل مستقلّ تقريبًا، وإن كنت أواجه بعض التحدّيات.
كذلك، أعيش حياتي وأنا على يقين أنّ الوضع قد يسوء تدريجيًا.
كنت في عمر يناهز الـ24 أو الـ25 سنة عندما اكتشفت حقيقة حالة عينيّ، وهو ذات السنّ تقريبًا الذي بدأت أتقبّل فيه توجّهي الجنسيّ وهويّتي الجندرية. كانت هذه المرحلة من حياتي محمومة ولكن ضروريّة، فقد عشتُ في نفس الوقت أزمة ربع العمر وصحوة روحية. كنت سعيدة لأنّني تصالحت أخيرًا مع نفسي. وعلى الرغم من إدراكي أنّ تلك المرحلة لم تكُن سوى بداية طريق محفوفة بالتحديات، شعرت بارتياح كبير عندما فهمت أخيرًا سبب ارتباكي وانزعاجي طيلة حياتي. أصبحت الأمور أكثر وضوحًا الآن، ولم يبقَ أمامي سوى أن أحاول أن أكون سعيدة وأعرف كيف أمضي قدمًا في حياتي.
صحيح أنّ القراءة باتت مَهَمّة أكثر صعوبة مع مرور السنوات، لكنّني حافظت على حبّي للمطالعة وتعطّشي للمعرفة. بمساعدة زملائي والمشرفين عليّ، وباستعمال عدسات مكبّرة عديدة وبرمجيات تكبير الشاشة وأدوات للمساعدة البصرية (ومتسلّحةً بالمثابرة)، تمكّنت من إتمام شهادة الدكتوراه في الحقل العلمي والعودة بعدها إلى مصر بعمر الـ29 لأحاول عيش حالة حبّ واختبار الحياة كفتاة كويريّة بالغة تعاني من إعاقة.
وحيث أني لم أعد طالبة في الكليّة، كان عليّ إيجاد وظيفة ومكان لأعيش فيه مستقلّة عن أهلي، وطريقة لتنمية حياتي الاجتماعية والبحث عن الحبّ. كان قرار العودة خطوة كبرى أفرزت تحديات جديدة.
للمرّة الأولى في حياتي، وبوتيرة شبه يومية، كان الناس يخطئون في تمييز نوعي الاجتماعي (جندري). في كلّ مرّة أسير في شارع مكتظّ من شوارع القاهرة، كنت أسمع النّاس يقولون: "هل هذا فتى أو فتاة؟"، دون أن يكترثوا إذا ما كنت أسمعهم أم لا. كان سائقو الدرّاجات يصرخون في وجهي، ويسألونني إذا كنت فتى أم فتاة، عند مرورهم بجانبي. لم يكُن هدفهم الحصول على إجابة، بل الإساءة لي.
بات استخدام الحمّامات العامّة مصدر توتّر متكرّر، وعلى الرغم من استخدامي الدائم لحمّام النساء، كانت كثيرات يعتقدن أنّ مكاني ليس هناك. كنت أضطرّ دائمًا إلى الموازنة بين حاجتي للذهاب إلى الحمّام وقدرتي على تحمّل حديث مزعج مع المسؤولة عن نظافة الحمّام أو مع واحدة في الداخل ممن يرمقنني بنظرات مرتبكة ومنتقدة. في أحيان كثيرة، تصرخ النّساء عندما أدخل إلى دورات المياه، ناهيك عن بعض سائقي سيارات الأجرة أو موظفي البيع الذين يخاطبونني طوال الوقت باستخدام ضمائر المذكّر وتصريفاته، غير مدركين لخطئهم.
لكنني ما زالت أشعر بتناقض حيال سوء تقدير نوعي الاجتماعي. هل يخطئ النّاس في حقّي عندما يشكّون في نوعي الاجتماعيّ خاصّة وأنّني غير متماهية تمامًا مع هويّتي كامرأة أو كرجل؟ ما دمت لست متأكّدة من نفسي، لماذا ألومهم؟ لكنّ ارتباكهم ليس ما يثير اضطرابي، إنّما النبرة التي يتحدّثون بها والتي غالبًا ما تحمل السخرية أو بعض الاشمئزاز أو التهديد بالعنف.
لدى دخولي حمّامًا عامًا، غالبًا ما أتساءل ما إذا كنت سأتعرّض للضرب من شخص يظنّني فتى يستخدم حمّام الفتيات عمدًا. قد يضربونني أوّلًا قبل طرح أيّ سؤال. بعض الحوادث مضحكة، وثمّة لحظات قصيرة أستمتع فيها بمزايا اعتباري شابًا؛ مثل المشي أو الركض في أماكن عامة دون التعرّض للتحرّش. لكن، في معظم الأحيان، يراودني شعور غريزيّ بالتوتر وعدم الأمان. في المرّات التي يظنّ فيها رجال غرباء أنّني فتى ولا يمانعون الجلوس أو الوقوف بقربي، تتلامس أجسادنا فيصطدمون بحقيقة أنّني فتاة، أو أن يرتطم بي أحدهم ثم يربّت على كتفي معتذرًا. عندما يظنّ الرجال أو الفتيان أنّني شابّ مثلهم، تتقلّص فجأة مساحتي الخاصة. بما أنّني في الحقيقة أخشى الرجال وخوفي مبرّر، تزعجني هذه المواقف وترعبني.
لا يسعف ضعف نظري توتّري. مثلًا، لا يمكنني الإسراع في عبوري للطريق لتفادي لقاء غير مرغوب قد يحصل. إذا كنت في مكان غير مألوف، لا يمكنني رؤية أو تخيّل جميع منافذ الفرار المحتملة، كما لا أستطيع رصد جميع المخاطر من حولي.
غالبًا ما يحبط عدم ارتياحي والصعوبات الناجمة عن حالتي محاولتي لجعل حياتي الاجتماعية أثرى وأكثر حيوية. حتى عند جلوسي مع أصدقاء مقرّبين في منزل زرته مئات المرّات، في أفضل الحالات، تزعجني عدم قدرتي على تمييز وجوه الأشخاص بشكل جيّد، وفي أسوءها، تثير توتّري وتزيد شعوري بالعزلة. بسبب حالتي، لا يمكنني النظر في عيون الناس، وعليّ أن أرفع نظري إلى مستوى أعلى من رأس الشخص لاعتمادي على رؤيتي المحيطية لأراه. يمكنني أن أنظر بطريقة توحي بأنّني أحدّق في عينيّ الشخص، ولكنّني فعليًّا لا أرى وجهه. أتحدّث إلى شخص دون وجه يظنّني أنظر في عينيه. أواجه هذه المشكلة تحديدًا في الغرف حيث الضوء خافت أو في الحفلات أو داخل الحانات حيث يوجد عدد كبير من الأشخاص الغرباء. يلخّص هذا الوصف حالة جميع لقاءاتي الاجتماعية.
المواعدة كابوس آخر! كلّ شيء يتعلّق بهذا الموضوع مخيف، ابتداءً من مراسَلة من مستخدِمة لتطبيق "تِندر" تبادلني الإعجاب على مدى أيام أو أسابيع قبل الاتفاق على التلاقي، وصولًا إلى اللقاء الفعلي ومحاولة التواصل معها رغم تفويتي لإشارات بصرية عديدة، والتساؤل عن الوقت المناسب لأفسّر أنّني نصف كفيفة. هذه الأمور جميعها تمنعني، لسوء الحظ، من أن أكون حاضرةً تمامًا أثناء المواعدات الغرامية التي قد تخفي قصة حبّ مستقبلية.
أمّا عن تحديات التوظيف، فحدّث ولا حرج. صعّبت إعاقتي انتقالي من كوني طالبة مميّزة إلى مجرّد شخص إضافي مؤهّل في سوق عمل مكتظّة. تطلّبت عدّة وظائف تقدّمت إليها رخصة قيادة و/أو القدرة على إجراء استقصاءات علمية بصرية، ولكنّ الأمرين كانا مستحيلين عليّ. يُفترض على شخص محترف في مجال عملي وبمستواي أن يعمل باستمرار ويُدرّس ويُجري أبحاثًا ويُصدر ورقات بحثيّة بوتيرة لا يسمح بها ضعف نظري. على الأرجح أنّ أي شركة تقارن بين سيرتين ذاتيّتين لشخصين يملكان مؤهلات عالية ستختار الشخص الذي ليس لديه حاجات خاصّة في مكان العمل، وحتمًا لن تختار "امرأة تشبه ولدًا مراهقًا". على الرغم من حصولي على شهادة دكتوراه، ما زلت أدرّس بدوام جزئي وأعمل بقدر الإمكان ضمن مشاريع حرّة للمحافظة على استقلاليتي المالية، وبالكاد أفلح في ذلك.
هذه التحدّيات التي أواجهها تدفعني إلى طرح سؤال: "أيّ عالم قد يستطيع تلبية احتياجات أمثالي؟". أعتبر نفسي محظوظة بدرجة البصر الكافية التي أملكها لأستطيع التجوال في العالم باستقلالية، كما أنني حظيت بفرصة الوصول إلى بعض التقنيات المساعِدة التي سمحت لي بمتابعة دراستي والعمل. لكن الكثيرين في مجتمعاتنا لا يتمتّعون بهذه الامتيازات. لا يُمكنني تخيّل مدى صعوبة حياة ولد أعمى ومثلي وفقير لديه والدان أميّان، يرزح تحت ظلمة العالم الآسرة وقيوده، دون القدرة على الوصول إلى ما يحتاج إليه لاكتشاف نفسه أوّلًا، ثمّ التقدم وحماية نفسه. ما تزال الطريق طويلة جدًا أمام مجتمعاتنا!
التعليقات
حياه المثليين شبه مستحيلة في مجتمعاتنا
إضافة تعليق جديد