بدأَت قصّتي مع الدورة الشهرية عندما كنتُ في سنّ الثانية عشرة، حين طرحَت أمي الموضوع للمرة الأولى وشرحَته لي. أتذكّر تلك اللحظة بوضوح. في البداية، أثارَت الفكرة اشمئزازي بسبب الدم والوجع الذي يرافق النساء في خلال الحيض، وبسبب ما كانت أمي تقوله عن "نجاسة" المرأة الحائضة، وعدم جواز مسكها القرآن، وتأدية الصلاة، وممارسة الجنس.
أقنعتُ نفسي طيلة سنوات أنني لن أمرّ بهذه التجربة. استمدّيتُ قناعتي من إيماني المطلق بقدرتي على تغيير الواقع البيولوجي وتحدّي الطبيعة نفسها. كان لديّ شعورٌ بأنني لن أحيض. اعتقدتُ أن إيماني القوي بأمرٍ ما يكفي لتحقيقه، فأنا سيّدة جسدي. تملّكَني هذا الشعور عندما تعلّمتُ ركوب دراجةٍ بعجلتَين. وعلى نحوٍ ما، اعتقدتُ أن لدى الحياة خططًا أخرى لي. شعرتُ باليأس والألم الداخلي بسبب اضطراري للانضمام إلى رحلةٍ بغير إرادتي.
بمرور الوقت، بدأَت أمي، التي جاءها الحيض في سنّ العاشرة، تشعر بالقلق. إذ عدا عن تأخّري بالحيض، لك تكن ترى فيّ علامات الأنوثة التقليدية التي كانت تجدها في بنات أقاربنا. فأنا لم أحبّ ارتداء الفساتين والتنانير، ولا اللعب بدمى باربي. كنتُ أحبّ الطبيعة، والعلوم، والفنون، والأفلام، والسيّارات والسرعة، ما جعلها تراني خارج «الإطار الطبيعي». بدأت أمي تعرب عن قلقها بعد أن أتممتُ سنّ الثانية عشرة من دون أن أحيض، وسرعان ما خلق قلقها شعورًا بالذنب لديّ، وأخذَت تتقاذفني الحيرة بين قناعتي الطفولية بأنّني لن أحيض، وثقل توقّعاتها من جهةٍ أخرى.
بحثًا عمّا يعزّيني في الفضاء الرقمي، شرعتُ في رحلة بحثٍ عبر أرشيفات الإنترنت لكشف أسرار تأثير الجغرافيا على الحيض. وبطريقةٍ هادئةٍ وإنّما حازمة، شرحت لأمي أن ولادتها وعيشها في أميركا اللاتينية ساهما في بدء دورتها الشهرية في وقتٍ مبكر، بعكسي أنا التي وُلدت وعشتُ في لبنان. ودعّم العلم موقفي الهشّ، لاسيّما أن العامل الجغرافي يؤثّر في التكوين البيولوجي، وبالتالي في الدورة الشهرية.
بلغتُ الثالثة عشرة ولم أحِض. حلّ الربيع وانعكس جماله وازدهاره على متجرنا. وفي أحد الأيام الربيعية، ووسط أحاديث الباعة وضجيج التجارة، اتصلَت جدّتي بأمي وأخبرَتها أنّ ابنة عمي، التي تصغرني بأربعة أشهرٍ وتعيش في أميركا اللاتينية الدافئة، بدأَت رحلتها مع الحيض. بدَت نظرة أمّي حادّةً في تلك اللحظة، كما لو كانت عيناها مرآةً لأفكارها. تسارعَت دقّات قلبي واستشعرتُ خطرًا في نظرتها. تساقطَت الكلمات من شفتَيها محمّلةً بمزيجٍ من القلق والإحباط. أعربَت عن مخاوفها من أن تنحرف طريقي عن «القاعدة». شكّل وقع كلماتها ضربةً في الصميم. بدأَت حصون قناعتي بالانهيار لأنني أدركتُ أن وراء مقاومتي لفكرة الحيض تكمن رغبةٌ عارمةٌ لدى أمّي بأن أنتقل إلي تلك المرحلة وهي رغبة تجعلها شخصًا سعيدًا.
بعد ستة أشهر، أصبحَت قلعتي الداخلية في حالة خراب. لم يعُد بإمكاني قمع مسار الطبيعة. استسلمتُ لِما لا مفرّ منه، ووجدتُ نفسي أتصارع مع بداية الدورة الشهرية في سنّ الثالثة عشرة ونصف. اعتراني غضبٌ بسبب اختراق حواجزي العقلية وخيانة جسدي. كان ذلك التعارف الحميم وغير المريح مع تكويني البيولوجي الخاصّ أمرًا غريبًا. تلك الخيانة جعلَتني أكره نفسي وجسدي، وأمقت الحقيقة البيولوجية التي تجعلني أنثى بأعضاء تؤلمني من دون أن أملك خيار إيقاف ذلك الألم.
في ملاذي الهادئ في بيت جدّتي، ولثلاثة أيامٍ مُتتالية، خضتُ رحلة الحيض غير المألوفة بالتوازي مع حربٍ صامتةٍ كانت تدور في داخلي؛ جزءٌ مني أراد أن يقاوم الدورة الشهرية ولم يُرد اختبار الألم، بينما جزءٌ واقعيٌّ آخر أدرك أن دورتي ربحَت الحربَ بالفعل.
بمرور الوقت، وجدتُ نفسي أتقبّل هذا الجانب الجديد من هويّتي، وإن بحذر. استمرّت الدورة وتوافَق جسدي مع إيقاعات الطبيعة. كنتُ أتأرجح بين الإحراج الشخصي والكبرياء الهادئ، وأتصارع مع أصداء إصراري وتوقّعات أمي. وفي مجتمعٍ يتعامل مع الدورة الشهرية باعتبارها سرًّا يجب كتمانه، شكّل إعلانُ والدتي المبتهج لأبي مصدرًا لمزيدٍ من الانزعاج.
إذا ما عدتُ بالذاكرة ونظرتُ إلى الماضي، يبقى ذلك الفصل من مراهقتي منسوجًا بخيوط إصراري، وآمال أمي وجاذبية الطبيعة التي لا ترحم. علّمَتني رحلتي من المقاومة إلى القبول أنه يمكن لمعتقداتنا أحيانًا أن تشكّل درعًا مثيرًا للإعجاب ضدّ الواقع، لكنّ قوّة الحب والروابط التي نتشاركها مع أهلنا ومحيطنا يمكنها أيضًا إعادة تشكيل تلك القناعات، حتى أكثرها عنادًا.
كَوْني الشخص «المختلف»، لم أشعر أبدًا بالراحة مع نفسي حتى اكتشفتُ أنني لا ثنائية الجندر1 . بمرور الوقت، كوّنتُ معرفةً أكبر عن نفسي، واكتشفتُ أنني غير ممتثلةٍ جندريًا، أو مرِنة الهوية الجندرية. اختبرتُ كثيرًا من مشاعر الاضطراب وعدم الارتياح بسبب الدورة الشهرية، لم أبتهج عندما حضتُ في المرة الأولى. اعتقدتُ حينذاك أن الجسد الذي حاض لم يكن جسدي الحقيقي، وأنني لن أقدر على العيش مع هذا الدم. أردتُه أن يتوقّف. لم يعجبني حتى أن أكون «فتاة» في مجتمعٍ يميّز بين النساء والرجال.
كونك جزءًا من مجتمع الميم-عين وتحاول/ين اكتشاف نفسك في بلدٍ لا يحترمك، يضعك في حيرةٍ من أمرك ويجعلك تواجه/ين صعوباتٍ في التعرّف إلى نفسك واكتشافها. ماذا يجب أن تفعل/ي؟ وكيف ستكون حياتك في المستقبل؟ هل عليك احترام عائلتك وتحقيق رغبتهم بالزواج؟ أم عيش حياتك كأيّ شخصٍ مغاير جنسيًا؟ تسأل/ين نفسك آلاف الأسئلة…
أخيرًا، حدث تغيّرٌ كبيرٌ في حياتي عندما انتقلتُ من منزل والدَيّ وبدأتُ في اكتشاف هويتي الحقيقية، عندها بدأَت رحلتي الفعلية في الحياة. قصدتُ طبيبةً نسائيةً من دون والدتي، وأجريتُ أوّل فحصٍ مهبلي. كنتُ في الواقع أكثر ارتياحًا بمفردي، من دون وجودها معي. تعلّمتُ الكثير عن دورتي الشهرية؛ كيف تتغيّر، وكيف يتفاعل جسدي مع حبوب منع الحمل… تعلّمتُ، مثلًا، أن دورتي الشهرية تتأثّر بحالتي النفسية والعاطفية. لم تعُد الدورة مقرفة، أقلّه بعد أن تغلّبتُ على آلامها بالدواء. اعتقدتُ أنني لن أعاني الألم بعد ذلك، لكنّني كنتُ مخطئة.
تناولتُ الحبوب لإيقاف الدورة الشهرية؛ فالألم كان فاق قدرتي على الاحتمال. وكان عليّ أن أتعلّم كيفية حقن نفسي بنفسي تفاديًا لنظرات الصيدلانية إذا ما قصدتُها لأخذ حِقَن تسكين الألم لأيام متتالية. كانت التجربة مؤلمة: فقدتُ القدرة على النوم أو العمل بشكلٍ جيّد، وانخفضَت مستويات الطاقة لديّ، وافتقرتُ إلى الفاعلية والإنتاجية. لذلك، توقّفتُ عن تناول تلك الحبوب، وقرّرتُ مواجهة جحيمي البيولوجي وآلامه. أعتقد أن هذا ثمن كوني وُلدتُ أنثى.
ملاحظة: هذا النص جزء من سلسلة مواد عن تجارب الأشخاص الذين واللواتي يحِضن بعنوان "إجت ومعها قصة". تتألّف السلسلة من مواد تم إنتاجها في خلال ورشة إبداعية بعنوان "نروي قصصنا مع الدورة الشهرية"، نظمتها مؤسسة "جيم" ومبادرة "جييتنا" في تموز/يوليو 2023 في لبنان، بالإضافة إلى مواد مستكتبة. تم تمويل الورشة وإنتاج المواد من قبل برنامج "نحن نقود"، وهو برنامج مدته خمس سنوات ممول من وزارة الخارجية الهولندية.
- 1أي أنني لا أتماهى مع جندرٍ معينٍ على نحوٍ دائمٍ وثابت؛ فأحيانًا أشعر بأنني رجل، وفي أحيان أخرى أشعر بأنني امرأة، وفي بعض الأوقات أشعر بأنني خارج هذه الثنائية تمامًا. ببساطة، أنا أتبنى مظهري وهويّتي الجندرية وفق ما أشعر به في اللحظة.
إضافة تعليق جديد