عاملات مهاجرات في الحرب: حين تصبح النجاة فعلًا جماعيًا

في سعيها لتوثيق تجارب عاملات مهاجرات إلى لبنان خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة، ترافق داليا خميسي اثنتين منهما.. تدخل شقتيهما وتصوّر يوميّاتهما، وتوثّق كيف حوّلتا تجاربهما الشخصية مع العنصرية إلى وقود لمساعدة مهاجرات أخريات. 


في شقة جوليانا الضيقة تكدست أكوامٌ من مستلزمات النظافة الشخصية وقناني المياه البلاستيكية قرب باب المدخل. كانت توزع هذه الحاجيات على النساء الستة المقيمات معها، منذ أن بدأت إسرائيل تصعيد هجماتها على لبنان في أيلول/سبتمبر 2024.

في إحدى الفترات استضافت جوليانا في الشقة نفسها إحدى عشرة امرأة من مجتمعها، وقد عثرت عليهن في أماكن مختلفة من المدينة، كنّ جالسات قرب حقائبهن تائهات بلا مأوى ولا مال.

لم تستطع جوليانا أن تبقى مكتوفة اليدين، فتطوّعت لتوزيع الماء والطعام والبطانيات والملابس على اللبنانيين واللبنانيات والمهاجرين والمهاجرات في الشوارع، وهناك التقت بعاملات مهاجرات استضافت بعضهن في شقتها، وساعدت أخريات في العثور على مأوى مؤقت.

جوليانا هي امرأة إفريقية في الخامسة والأربعين من عمرها وأم لخمسة أطفال، وصلت إلى لبنان عام 2012. تحمّلت عنف زوجها أكثر من عقد قبل أن تقرّر الفرار من البيت.
 

جوليانا على شرفة شقتها الصغيرة في برج حمود، أحد أحياء بيروت الشعبية، وفي أسفل اليمين، تحت المظلّة، يقف ديك أهدته لها صديقتها.

بعد فترة قصيرة تعرّفت على صاحب شركة له علاقات مع وكالات توظيف في الشرق الأوسط بينها وكالة في لبنان، وهناك عرضوا عليها صورًا لمبانٍ شاهقة في بيروت، ولناس يجلسون على شاطئ البحر، وللأشجار والطبيعة والمساجد والكنائس وجبال لبنان. قالوا إن الوكالة تبحث عن عاملات تنظيف في مؤسسات مثل المصارف والمستشفيات والمدارس، وإنها ستحصل على سكن وطعام ومصاريف للتنقل، وستعمل في بيئة آمنة.

كانت تحلم بقضاء عطلة نهاية الأسبوع في الجبال، وبالسباحة في البحر بعد يوم عمل طويل، ولهذا وقّعت الأوراق دون أن تقرأها جيدًا، وبعد أيام كانت على متن طائرة متجهة إلى بيروت.

قدر على الفرن في مطبخ شقة تتشاركها جوليانا مع ست نساء مهاجرات أُخريات، تخلّى عنهنّ أصحاب العمل أثناء الحرب.

ما إن وصلت جوليانا إلى مطار بيروت حتى بدأ حلمها يتهاوى، حيث وُضِعت في زاوية معزولة في المطار إلى جانب مهاجرات أخريات من إفريقيا. "كنا ننتظر كالسجينات" كما تقول. صودر جواز سفرها واضطُرت إلى النوم على الأرض.

في الصباح الباكر ناداها ضابط في المطار ولوّح بجوازها، ثم عرّفها إلى "صاحبة العمل" الجديدة التي وصلت برفقة ابنها. صُدمت جوليانا لأنها كانت قد وقّعت عقدًا للعمل في شركة تنظيف لا كمربية أطفال. حاولت الاعتراض لكن أحدًا لم يصغِ إليها.

في بيت أصحاب العمل، أعطوها زاوية على الشرفة لوضع سريرها. كانت الشرفة مساحة مشتركة للعائلة في النهار ولم تكن مناسبة للنوم. وكل ما قد حصلت عليه هو عبارة عن غطاءين رقيقين لم يحمياها من البرد خاصة بعد أن صودرت حقيبة ملابسها التي كانت قد جهّزتها استعدادًا لشتاء بيروت، لذا أمضت لياليها ترتعش من البرد في الفراش، لا يحميها من المطر والبرد سوى واجهة زجاجية رقيقة.

المجلى في مطبخ جوليانا.

كانت مهام جوليانا اليومية تبدأ برعاية الطفل الصغير وتنظيف الشقة حتى الساعة 11 صباحًا. بعدها كانت تعتني بوالدة صاحبة العمل وتذهب لتنظيف منزلها، إلى جانب الاهتمام بابنها المريض. تقول: كنتُ ضحية للإساءة والعبودية الحديثة والعنصرية.

في لبنان عانت جوليانا من سوء التغذية، إذ كانت "المدام" تفرض عليها نظام حمية قاس للتخلص من "وزنها الزائد"، فاقتصرت وجباتها على الخبز وقطعة جبن وبعض الشاي. استُنزفت طاقتها بين العمل الشاق والإساءة اللفظية والتجويع والألم الذي تحول إلى تقرحات في ساقيها بسبب كثرة العمل. تصف تلك المرحلة بقولها: كنت عبدة محاصرة.

أحذية جوليانا وضيفاتها موضوعة جنبًا إلى جنب في الممرّ داخل شقتها الصغيرة.

بعد شهرين من هذه المعاناة انهارت، فدفعها هذا إلى التهديد بالقفز من الشرفة، صرخت حتى سمعها المارّة في الشارع وتدخلوا لمساعدتها. تواصلت الوكالة معها ووعدتها بإيجاد وظيفة أخرى. وبعد أسبوعين بدأت عملًا في منزل مختلف استمرت فيه عشرين شهرًا. لكن المشاكل عادت للظهور حين صار خطيب صاحبة العمل يتردّد إلى المنزل يوميًا، ويُعامل جوليانا بعنصرية وتمييز بسبب لون بشرتها، فقرّرت المغادرة.

وجدت نفسها مرة أخرى بلا مأوى أو مال، إلى أن التقت بمجموعة من النساء المهاجرات اللواتي استضفنها وساعدنها في إيجاد أعمال مستقلة. ورغم المضايقات والاستغلال، كانت محاطة بنساء مررن بتجارب مماثلة يدعمن بعضهن بعضًا.

غريس، عاملة مهاجرة تخلّى عنها أصحاب عملها خلال الحرب، تقف عند مدخل شقة جوليانا. بعد أن تُركت دون مأوى، استضافتها جوليانا. على اليسار، ست علب لمستلزمات النظافة الشخصية تعود لضيفات جوليانا، موضوعة على طاولة جانبية.

لاحقًا شاركت جوليانا في احتجاجات نظّمتها العاملات المهاجرات للمطالبة بحقوقهن. هناك تعرّفت إلى مركز العاملات المهاجرات، وهو مساحة بديلة نسوية ومناهضة للعنصرية، خصصت للعاملات المنزليات المهاجرات في لبنان اللواتي يعشن تحت نظام الكفالة. وفي هذا المكان وجدت أخيرًا مساحة آمنة وبيئة تشبهها.

نيكول، عاملة مهاجرة تخلّى عنها أصحاب عملها أثناء الحرب، تجلس على أحد الأسرة داخل شقة جوليانا، حيث تعيش منذ أن أصبحت بلا مأوى.

مع مرور الوقت وبعد مشاركتها في جلسات التوعية والأنشطة، أصبحت جوليانا من الوجوه القيادية في مجتمعها. بدأت بتنظيم لقاءات توعوية للمهاجرات الأخريات، تُشاركهن قصتها وتُعرّفهن بحقوقهن.

تقول: لقد تعرضتُ للتلاعب، وساعدنتني الأخريات على تخطيه. أنا الآن بأمان. لذا إن رأيتُ شخصًا يمرّ بتجربة مشابهة أحاول دعمه. ما أُقدّمه ليس المال بل وقتي فقط.

منظر ليلي للحيّ الذي تسكن فيه جوليانا في برج حمود. بعض جيرانها يزعجونها هي والمهاجرات الأخريات.

ديانا من جهتها، كانت تعرف أنها آتية إلى لبنان للعمل كعاملة منزلية. وقّعت عقدًا مع عائلة عاملتها كفردٍ من أفرادها طوال سبع سنوات. كانت تتقاضى أجرها بانتظام، وسُمِح لها بزيارة أطفالها كل عام. لم تتعرّض لأية إساءة، حتى قرّرت العائلة مغادرة لبنان بشكل نهائي. عندها بدأت ديانا رحلة البحث عن وظيفة جديدة.

لم تدم التجربة مع العائلة التالية أكثر من سبعة أشهر. كانت ديانا تؤدي عملها بكفاءة، لكنها تعرضت لسخرية مستمرة بسبب وزنها. بعد أشهر من الإساءة غادرت وانتقلت إلى منزل جديد، لكن الأزمة الاقتصادية في لبنان كانت في أوجها، وبالتالي بدأت العائلة تتذرع بالأوضاع المعيشية لتأخير دفع راتبها. انتظرت 11 شهرًا كانت خلالها تتلقى وعودًا وتصبر في صمت، حتى نصحتها رفيقاتها بالمغادرة. استضفنها في بيوتهنّ، وساعدنها على النهوض مجددًا من خلال اقتراح وظائف حرة ومؤقتة.

ديانا تقف بجانب نافذة شقتها في برج حمود.

استأجرت ديانا شقة صغيرة، وبدأت تستقبل فيها النساء المهاجرات اللواتي تعرّضن للإساءة أو الاستغلال أو العنف. أثناء تجولها في الشوارع، كانت ترى نفسها في كل مهاجرة مشرّدة تصادفها؛ بعضهن كنّ يجلسن على الأرصفة وحقائبهن بجانبهن، حائرات وتائهات، فكانت تعرض عليهن المساعدة، وتؤويهن مؤقتًا إلى أن يجدن حلًا لوضعهن.

تقف ديانا خلف الستائر التي تفصل غرفة نومها عن غرفة المعيشة، حيث تنام النساء المهاجرات اللواتي تستضيفهنّ منذ اندلاع الحرب.

في عام 2022 انضمت ديانا إلى مركز العاملات المهاجرات، حيث شاركت في الأنشطة والجلسات التوعوية وتعرّفت إلى حقوقها كعاملة مهاجرة، حقوق لم تكن تعرف بوجودها قبلاً. لسنوات عاشت شعور الوحدة بلا سند حتى وجدت هذا الفضاء الآمن.

ديانا تقف في غرفة نومها.

تحوّلت ديانا مع الوقت إلى قائدة في مجتمعها أيضاً، تتواصل معها النساء حين يواجهن مشاكل مع أصحاب العمل. في الحالات البسيطة كانت تساعدهن على تحسين العلاقة، أما في حالات العنصرية أو الاستغلال فكانت تساعدهن على المغادرة، وتوفّر لهن فرص عمل في بيئات أكثر أمانًا.

أساور وقلائد من الخرز صمّمتها ديانا في أوقات فراغها، وكلّما شعرت بالتوتر. تساعدها على الهدوء وتؤمّن لها دخلًا إضافيًا عند بيعها.

عندما تصاعدت الهجمات الإسرائيلية على لبنان في أيلول/سبتمبر 2024، نشرت ديانا ومجتمعها إعلانات تدعو النساء المقيمات في الجنوب للتوجّه نحو بيروت، حيث يمكنهن الحصول على مأوى في شقتها التي استضافت بها ثلاثين امرأة. كانت أرقام هواتف ديانا متداولة بين العاملات المهاجرات سواء في لبنان أو في بلدها، حيث تُعرف كناشطة تدعم مجتمعها في المهجر.

حقائب من الخرز صمّمتها ديانا، معلّقة على الرفوف في شقتها.

خلال الحرب تطوّعت ديانا للطبخ في مركز العاملات المهاجرات، حيث ترأست فريقًا من المهاجرات كان يُعدّ ما بين 300 و500 وجبة يوميًا، ثلاث إلى أربع مرات أسبوعيًا، لتوزيعها على نازحات ونازحين من مختلف الجنسيات بمراكز الإيواء في محيط بيروت.

صورة للأطباق التي طهتها ديانا مع فريقها وتوزيعها على المهاجرين والمهاجرات في الملاجئ، أثناء الحرب.

تقول ديانا: أساعد كل إفريقية. نعاني من التمييز نفسه بسبب لون بشرتنا. أنا ناشطة في مجال حقوق السود... هنا في لبنان، العاملات المهاجرات متحدات. هناك تضامن لأننا نعيش العنصرية نفسها. عندما نتعرض للهجوم نتّحد."

صورة للأطباق التي طهتها ديانا مع فريقها وتوزيعها على المهاجرين والمهاجرات في الملاجئ، أثناء الحرب.

(بطلب من ديانا وجوليانا، غُيرت الأسماء والجنسيات حفاظًا على خصوصيتهن وسلامتهن، وكذلك اسمي غريس ونيكول ضيفتي جوليانا). 

    داليا خميسي

    مصورة فوتوغرافية تُقيم في بيروت. تتمحور أعمالها حول توثيق المواضيع الاجتماعية والسياسية في الشرق الأوسط وقد اهتمت بشكل خاص بعواقب الحروب في لبنان والمنطقة. وثقت من خلال مشاريعها الخاصة المتواصلة قصص مفقودي الحرب الأهلية في لبنان وضحايا تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020. نُشرت صورها في مجلات وجرايد محلية وعالمية، كما عُرضت أعمالها في لبنان والعالم. 

    إضافة تعليق جديد

    محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.