من الثورة إلى الظلّ: كيف أعادت الحرب تعريف وجود اليمنيّات؟

كان مؤتمر الحوار الوطني (2012-2014) شرارة ضوء في ليل النساء الطويل في اليمن. إذ وجدت النساء أنفسهن بعد الثورة اليمنية في عام 2011، ونضال الحركة الشعبية الداعية لإسقاط نظام الرئيس علي عبدالله صالح، وبناء دولة مدنية فيها مواطنة متساوية، وجدن أنفسهنّ أخيراً أمام بابٍ مفتوح، ولو بشكل خجول. فحصولهنّ على كوتا بنسبة 30 بالمئة، أتاح لهنّ فرصة التسلّل إلى أروقة المؤتمر، والتفاوض على مصير البلاد والدستور، بجرأةٍ لم تعهدها البلاد من قبل. 

تلك الكوتا النسائية -أي الحصة المضمونة للنساء- كانت بمثابة خطوة غير مسبوقة لضمان مشاركة المرأة في العملية السياسية، بعد دورها البارز في الثورة. 

فخلال حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، كانت الكوتا النسائية تُحدّد رمزيًا بنسبة 15 بالمئة، إلا أن الواقع كان مختلفًا تمامًا؛ إذ لم تُنتخب سوى امرأتين فقط من بين 301 عضو في البرلمان، بدلًا من 45 امرأة كما يُفترض وفق هذه النسبة. أما نسبة 30 بالمئة في مؤتمر الحوار الوطني، فلم تكن امتيازًا حصلت عليه النساء تلقائيًا، بل جاءت نتيجة ضغوط متواصلة من الحركة النسوية اليمنية، مع دعم المجتمع الدولي.

خلال المؤتمر، وبعد نقاشات مكثّفة، أُنتجت وثيقة تضمنت مئات التوصيات، بُنيت عليها مسودة الدستور الجديد. وعلى عكس الدساتير السابقة، اعترف الدستور المُقترح بالمواطنة الكاملة للمرأة وشخصيتها الاعتبارية المستقلة، ونصّ على حصة 30 بالمئة للنساء في مناصب صنع القرار، وهو إنجاز كان سيجعل اليمن آنذاك في المرتبة الثانية بعد تونس من حيث التمثيل القانوني للنساء في السلطة.

دارت الأحاديث، كُتبت التعديلات، وكأن الثورة الحقيقية بدأت هنا، على الورق، بين أصابع مُرهَقة من حمل الأحلام الثقيلة. كاد الدستور الجديد أن يكون بدايةً لشيء مختلف، شيئًا أقرب إلى العدالة، شيئًا يجرؤ على اقتلاع الجذور العفنة للتمييز القانوني ضدّ النساء.

لكن البلاد، كما هو حالها دومًا، لا تسمح بالكثير من الأحلام. جاء الانقلاب عام 2014، كقوسٍ ينكسرُ في العاصفة، وجرّ الحوثيون كل شيء إلى الظلام. فتراجعت السياسة وتبعثرت الحقوق، وانهار ما بُني في شهور بلحظة، كبرجٍ من ورق عصفت به الريح. 

دخلت اليمن، التي لم تعرف يومًا سوى الحروب، في دوامةٍ أخرى: حربٌ أهلية تأكلُ أرواح أهلها من الداخل، وحرب التحالف العربي بقيادة السعودية تمزّق ما تبقى من لحمها العاري. وبين هذا وذاك، النساء. النساء كنّ هناك، دائمًا هناك، لكن بظلٍ أكثر ثقلاً، وبوجعٍ أكثر قسوة.

الحرب لم تكن مجرد حرب، بل شهوة أخرى للعنف وإضافة جروح فوق الجروح القديمة. لم يكتفِ الرجال بالدم، أرادوا المزيد.. المزيد من السيطرة والمزيد من السلطة. ولم تخسر النساء فقط الحقوق التي وُعدن بها، بل خسرن مساحة وجودهن، خسرن فكرة أن لهن مكانًا في العلن أو حتى في الخفاء، وأصبح العنف ضدهنّ جزءًا آخر من الفوضى، وامتدادًا طبيعيًا للحُطام.

وهنا، تبرز أسئلة لا مفرّ منها: هل هذه مجرد نهاية أخرى لقصتهنّ الطويلة مع الظلم؟ أم أنها نقطة تحوّل ستترك تأثيرات عميقة على خياراتهنّ ودورهنّ في المجتمع ومساحة وجودهنّ في الحياة العامة والخاصة؟ هل سيندثرن في الصمت؟ أم أنهنّ سيصنعن من الركام دربًا جديدًا؟

أسئلة جوهرية حول مستقبل النساء في اليمن، حيث تنهض الثورات من تحت الأنقاض.

العنف في ساحات الحرب والحياة الخاصة

في خضمّ الحرب، سعى أطراف النزاع إلى تحقيق مكاسب إضافية على حساب النساء، فعملوا على خنقهنّ، وفرض قيود مشددة على أياديهن الفاعلة في المقاومة والحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي. 

قبل النزاع، وُجدت قوانين كانت منذ البداية كالثقوب في الجدار، تبتلع النساء واحدة تلو الأخرى. فالنساء بحسب قانون الأحوال الشخصية اليمني (صدر عام 1992 وعُدّل عدة مرات)، لا يمكنهنّ الزواج بدون إذن ولي الأمر الذكر، ولا يمكنهنّ الطلاق بدون إذلال، فليس لهن الحقوق المُتاحة للرجال في الطلاق، كما لا يمكنهن الاحتفاظ بأطفالهن إلا بإرادة رجل. 

ثمّ جاء الحوثيّون والحكومة اليمنية و"المجلس الانتقالي الجنوبي" المدعوم من الإمارات، وأحكموا عقد تلك القيود. وقرّروا أن المرأة لا تتحرك إلا بإذن، ولا تسافر إلا مع قريب ذكر (ّمُحرم)، فهي تحتاج لموافقة مكتوبة من وليّ أمرها للسماح لها بالسفر - وكأنّها بضاعة يُؤذن لها بالعبور من نقطة تفتيش إلى أخرى- مع العلم أن إلزام النساء بالسفر مع أو بإذن محرم ذكر لم يكن مفروضًا قبل بدء النزاع. 

وجدت فتيات صغيرات وقاصرات، بالكاد يفهمن معنى الحب و معنى أجسادهن أنفسهن فجأة في أسرّة رجال أكبر منهن بعشرين أو ثلاثين أو أربعين عامًا. إذ لا يوجد حد أدنى لسنّ الزواج في اليمن، ولم يكن هناك يومًا. لكن الحرب جعلت تزويج القاصرات أكثر انتشارًا، أكثر بؤسًا وأكثر قبولًا لدى العائلات الجائعة. فلا شيء يحمي البنت من الفقر والمجاعة سوى احتمال أن يتحمّل نفقتها رجل يكبرها. 

هناك نساء رفضن وخرجن إلى الشوارع، تحدثن و صرّخن و طالبن. لكن أطراف النزاع لا تحب النساء اللواتي يتكلمن. فكان هناك تهديد وحملات تشهير و ضرب و احتجاز انتقاميّ. وذلك كله لم يكن ذلك كافيًا لأطراف النزاع، فعملوا على أن تُهان النساء في السجون ويتعرّضن للعنف الجنسي، وأن يُتهمن بالدعارة والفجور بمصطلحات مهينة تترك وصمة عار إجتماعية على النساء الضحايا. 

أما المُهاجرات القادمات من القرن الأفريقي للذهاب إلى السعودية، فلهنّ حكاية أخرى. يتركن بلادًا أحرقتها المجاعات ليجدن في اليمن جوعًا آخر، الجوع إلى السلطة و السيطرة. يتعرّضن للاغتصاب والتعذيب على أيدي المهرّبين والمتاجرين بالبشر. وفي قلب هذا المستنقع، لا يتوقّف العنف عند أبواب الحرب، فهو يتسلّل إلى المنازل و غرف النوم وإلى زوايا المطابخ حيث تطبخ الأمهات وجبات لأبناء قد يقتلوهنّ لاحقًا.

تحوّلت في السنوات الأخيرة أخبار قتل النساء من قبل أقربائهنّ الذكور لأمر روتيني. امرأة تُحرق في لحج وأخرى تُذبح في الحديدة على يد طليقها وثالثة تُطعن في عدن على يد زوجها، ورابعة تُسلب أنفاسها الأخيرة بإبرة مسمومة لأنها قالت "لا" وأمهات يُقتلن بأيدي أبنائهن. الموت يتكرّر كأنه ترنيمة بوجوه جديدة وأسماء جديدة يجمعها نفس المصير. 

رأينا العدالة تأخذ مجراها في قلة من تلك الجرائم، فقد قضت محكمة الاستئناف في عدن في شباط/ فبراير هذا العام بإعدام المتهم محسن أحمد بعد ثبوت تورّطه في قتل الضحية فاطمة دومان في شهر أغسطس/ آب 2023 داخل مركز تجاري في عدن. طعن الجاني ضحيته عدّة مرات في جسدها مستخدمًا سلاحًا أبيض (خنجر)، مما أدى إلى إصابتها بنزيف دموي حاد أودى بحياتها.

وبذلك، لم يقتصر العنف الممارس ضد النساء على ساحات الحرب فقط، بل امتد أيضًا إلى الحياة الخاصة. تصاعد العنف الأسري بشكل خطير مع تفاقم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، مما جعل النساء أكثر عرضة للقتل على يد أفراد من عائلاتهن. وفي ظلّ انهيار مصادر الرزق، لجأ بعض الرجال إلى العنف كوسيلة للسيطرة والتنفيس عن إحباطهم، وهو سلوك لا يبرّره أي ظرف. فبدلًا من مواجهة الأسباب الحقيقية للأزمة، يُوجّه العنف ضدّ النساء، مما يعكس ترسّخ ثقافة الإفلات من العقاب واستخدام القوة لفرض السيطرة في ظلّ الفوضى والانهيار الاقتصادي.

في لقاء أجريته مع مدافعات عن حقوق النساء داخل اليمن، أكّدن أن معدلات الطلاق في ازدياد، إلى جانب تصاعد العنف الجسدي ضد النساء والأطفال من ضرب وإيذاء مستمرّ. وهكذا، تحوّلت البيوت، التي من المفترض أن تكون ملاذًا آمنًا، إلى ساحات أخرى للعنف والقهر. ورغم ذلك، لا يزال اليمن يفتقر إلى قانون واضح يحمي النساء من العنف الأسري. 

إرث العنف 

مع كل هذا، تحظى النساء في المجتمع اليمني بمكانة خاصة، تتجذر في العادات والتقاليد التي تمنحهنّ احترامًا اجتماعيًا داخل الأسرة والمجتمع، مما يجعل تناقض هذه المكانة مع القوانين المجحفة وواقع النساء المؤلم أكثر وضوحًا. فالازدواجية في التعامل مع المرأة -بين التقدير الاجتماعي والتهميش القانوني- تعود إلى تداخل معقد بين العادات والتقاليد والهياكل القانونية المستمدة من تفسيرات دينية وقبلية. 

من جهة، يُنظر إلى المرأة كعماد الأسرة فهي تُحاط بالاحترام والرعاية، لكن هذا التقدير يأتي مشروطًا ببقائها ضمن أدوار تقليدية مرسومة بدقّة. ومن جهة أخرى، تُترجم هذه النظرة إلى قوانين تعزّز سيطرة الرجال على حياتها، باعتبار ذلك جزءًا من "حمايتها" وليس انتقاصًا من حقوقها. 

العنف الذي ازداد خلال الحرب ضدّ النساء ليس مجرد ضربة تُسدّد إلى أجسادهن، بل هو شقّ عميق في جدار المجتمع. إذ أصبحت النساء محورًا للصراع السياسي والعسكري عبر العنف الممنهج الذي يشمل القتل والاحتجاز والتعذيب والزواج القسري كوسيلة للبقاء في ظلّ الانهيار الاقتصادي. 

ولا تُعتبر القيود المفروضة على حرية التنقل مثل شرط "المُحرم" للسفر مجرد إجراء تنظيمي، بل هي أداة لفرض سيطرة المجموعات المسلحة على المجالين العام والخاص، مما يعزّز السلطة الذكورية التقليدية في سياق أكثر قمعًا. 

لم يؤدِّ العنف ضدّ النساء إلى إلغاء المساحة المحدودة لمشاركتهن السياسية والاجتماعية فقط، بل جعل مجرد الوجود في الفضاء العام تهديدًا مباشرًا. ويزيد استهداف الناشطات والمدافعات عن الحقوق -عبر التهديدات والتشهير والاغتيالات- يزيد من عزلهن عن المجال العام، ويؤكّد أن قمع النساء ليس مجرد نتيجة للحرب، بل جزءًا أساسيًّا من استراتيجيات السيطرة. 

وتسبّبت الحرب في تفكيك إحساس النساء بذواتهنّ، فهن يعشن في حالة دائمة من الخوف والقلق من المراقبة والعقاب، فأيّ محاولة للمطالبة بحقوقهن فيها تهديد لبقائهنّ، مما عزّز عزلهنّ وتهميشهنّ. وقد تحوّلت الصدمة النفسية مع تصاعد العنف والقمع الممنهج إلى إرثٍ يومي، وأصبحت النساء تحمل في أجسادهنّ وذاكرتهنّ ندوبًا غير مرئية لا تقلّ إيلامًا عن الجروح الجسدية.  لكن القمع المفرط يولّد في كثير من الأحيان ردود فعل لا يحسبها من يمارسونه. 

فمثلًا، اضطرت العديد من النساء إلى إعادة ترتيب أولوياتهنّ على المستوى الشخصي، ليس بناءً على رغباتهنّ أو طموحاتهنّ، بل وفق الضرورات القاسية التي فرضتها الحرب. 

ورغم عدم توفر إحصاءات دقيقة حول مشاركة النساء في سوق العمل، تشير المؤشرات إلى تزايد انخراطهنّ في القوى العاملة خلال السنوات الأخيرة. بل إن بعض النساء بدأن في تولي وظائف كانت تُعتبر حكرًا على الرجال في السابق. فمثلاً، لم تكن النساء تقود سيارات الأجرة بتاتًا قبل الحرب، وكان ذلك حكرًا على السائقين الذكور. لكن الشابة غدير الخولاني أطلقت تطبيق "مشواري حواء" في صنعاء قبل عام ونصف، لتمكين النساء من قيادة سيارات الأجرة لنقل النساء والأطفال، وقد بدأ التطبيق بخمس سائقات وتوسع ليضم 20 سائقة حاليًا.  

ويُعتقد على نطاق واسع أن سنوات الصراع المسلح أسهمت في زيادة نسبيّة في توظيف النساء، مع فقدان العديد من الرجال مصدر دخلهم وفقدان العديد من الرجال في الحرب، سواء بالقتل أو الاحتجاز أو الإصابة، فوجدت النساء أنفسهنّ مضطرات لتولي أدوار جديدة كمُعيلات لأسرهنّ. رغم أن هذا التطوّر قد يُرى أنه خطوة إيجابية، إلا أنه كان بدافع الضرورة وليس كجزء من تحرّر اقتصادي مخطّط له بإرادة النساء. وهناك دومًا خطورة ترافق تلك الخطوة من استغلال اقتصادي وأجور منخفضة ومخاطر متزايدة على حياتهنّ.

في ظل الحرب، لم تعد الخيارات المتاحة للنساء تُبنى على الرغبات أو الأحلام، بل أصبحت مقيّدة بالأمر الواقع وبحالة الطوارئ المستمرة. وأصبحت الأولويات تتمحور حول النجاة وتأمين الحد الأدنى من الحياة، بدلاً من تحقيق الذات أو الطموح الشخصي. 

متى التغيير؟ 

لم يخلق النزاع الراهن في اليمن التمييز ضدّ النساء، لكنه ضاعفه وأعطاه شرعية جديدة، سواء عبر القوانين المُقيدة أو العنف الممنهج. كما أن الحرب لم تكتفِ بإلغاء المكاسب القليلة التي حصلت عليها النساء بعد عام 2011، بل أعادت تعريف وجودهنّ بالكامل، من فاعلات إلى مُهمّشات، ومن صاحبات مطالب سياسية إلى ضحايا لعنف متزايد. الحرب كانت أيضًا كشفًا لحجم الظلم ولعمق الإقصاء ولشراسة من يخشون أن يكون للنساء صوت ومكانة. 

رغم كلّ هذا القمع، فإن هناك مؤشرات على أن هذه التغيرات القسرية قد تخلق في المستقبل دافعًا لحركة نسوية أكثر جذرية مستفيدة من التجارب القاسية التي مرّت بها النساء في الحرب. فمع تزايد عدد النساء اللواتي يخضن مجالات العمل والاعتماد على الذات، ومع الوعي المتزايد بأشكال القمع، قد يتشكّل وعي نسوي جديد قادر على تحدي هذا الواقع، سواء عبر النضال الحقوقي أو إعادة بناء الأدوار الاجتماعية بعد انتهاء الحرب. التاريخ يشير إلى أن الأزمات الكبرى غالبًا ما تكون مقدّمة لتحولات جذرية، و السؤال هنا ليس إن كان التغيير سيحدث، بل متى، وكيف ستكون ملامحه.  

    أفراح ناصر

    أفراح ناصر صحفية يمنية مستقلة حائزة على عدة جوائز وهي المؤسس ورئيسة تحرير مجلة صنعاء الإلكترونية - تغرد على تويتر على @afrahnasser 

    إضافة تعليق جديد

    محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.