في ليبيا… إعادة تدوير الفاشية فوق أجساد النساء والكويريين

كنت أشاهد فيديو على يوتيوب يتحدّث عن الفاشية، يتناول فيه صانع المحتوى راين شابمان نشأة الفكر الفاشي متخذًا هتلر وموسوليني كفرعين مؤسسين؛ وكان ما أثار اهتمامي في طرحه هو تعريفه للفاشية بجملة - Thinking with the blood of the Nation "التفكير بدماء الأمة". 

كان المفهوم الفاشي لـ "التفكير بدماء الأمة" محوريًا في تشكيل الأيديولوجية الفاشية، إذ يُنظر إلى الأمة كوحدة عضوية مترابطة تقوم على العرق والهوية المشتركة وليس على المبادئ الديمقراطية أو الحقوق الفردية. وقد لعبت الدعاية دورًا أساسيًا في ترسيخ هذه الرؤية، واستُخدمت لإثارة المشاعر القومية وتعزيز الولاء المطلق للدولة القومية وتصوير أي معارضة كخيانة. وبالمثل استخدمت الأنظمة الاستبدادية في ليبيا الدعاية كأداة مركزية لفرض سلطتها، عبر إعادة إنتاج خطاب يعزز قمع أي بديل سياسي أو فكري.

وعلى غرار الأنظمة الفاشية التي سادت في أوروبا مطلع القرن العشرين، يعمد الخطاب السياسي الليبي إلى تشكيل هوية وطنية ترتكز على القيم الأبوية من خلال تهميش وإقصاء النساء والأفراد الكويريين، واعتبارهم/ن تهديدًا للنسيج الاجتماعي1. تتبنّى الدولة الليبية أساليب دعائية مماثلة لتلك التي استخدمها النظام الفاشي الإيطالي في مستعمراته (1922-1943) وهو ما يؤثر على المجتمع الليبي حتى اليوم.

الفاشية والاستعمار الإيطالي في ليبيا

لعب الاستعمار الإيطالي دورًا محوريًا في إعادة تشكيل ليبيا الحديثة، إذ إن تأثيره لم يقتصر على البنية التحتية والسياسية بل امتد إلى الخطاب الاجتماعي. 

خلال الحكم الفاشي سعت إيطاليا بقيادة موسوليني إلى "تحضير" (من حضارة) ليبيا عبر فرض القيم الأوروبية، وهو ما ترافق مع سياسات قمعية اتجاه السكان المحليين. في نظري ساهمت الدعاية الفاشية الإيطالية في تشكيل نظرة أهل ليبيا لأنفسهمن، إذ صوّرتهمن كغير متحضّرين/ت بحاجة إلى الوصاية الأوروبية. كان الهدف من هذه السرديّة تبرير الاحتلال وقمع الهوية الثقافية الليبية، ممّا أدّى إلى شعور بالهامشية والدونية بين المُستعمَرين/ات.

في كتابه "الإبادة الجماعية في ليبيا"2، يشير علي عبد اللطيف احميدة إلى أن الفاشيين الإيطاليين استخدموا الدعاية لتصوير الليبيين والليبيات على أنهم/ن "برابرة" و"متخلّفون/ات" لتبرير سياساتهم القمعية والاستعمارية. يقول احميدة: ​من أمثلة الدعاية الفاشية إنشاء وزارة دعاية خاصة في عام 19353، كان هدفها المعلن هو قول الحقيقة عن الفاشية، ودحض أكاذيب أعدائها وإزالة الغموض الذي كان متوقعًا فقط في حركة كبيرة وديناميكية". 

استخدم النظام الفاشي الدعاية بكثافة، بما في ذلك المهرجانات والخطابات لإلهام الأمة وإخضاعها للوحدة. إضافة إلى ذلك دُشّن "راديو باري" في السادس من أيلول/ سبتمبر 1932، مُكثّفًا البث الموجه نحو البلاد العربية بين عامي 1934 و1936 بهدف كسب العرب إلى صف إيطاليا. وعوّلت الفاشية على البروباغندا عبر إطلاق برامج عربية لتحقيق هذا الهدف. 

بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي، أصدرت السلطات الإيطالية بطاقات بريدية استعمارية تصوّر المعارك العسكرية والحياة اليومية تحت الاحتلال الإيطالي. كانت هذه الصور تهدف إلى إظهار التفوّق الإيطالي وإبراز فكرة أن الليبيين بحاجة إلى "إرشاد" من قبل المُستعمِرين الأوروبيين4.

الدعاية الفاشية والخطاب السياسي الليبي

على الرغم من استقلال ليبيا في عام 1951، لا تزال العديد من ممارسات الدعاية السلطوية قائمة من خلال توظيف القيم الأبوية والقومية المتطرّفة لضمان استمرارية الأنظمة الحاكمة. خلال حكم القذافي على سبيل المثال ساد خطاب قومي ذكوري روّج لفكرة "الرجل القوي" القادر على حماية البلاد من الأعداء الداخليين والخارجيين. كان هذا الخطاب يستند إلى استبعاد النساء من مواقع السلطة وإخضاعهنّ للأدوار التقليدية، مع معاملة الأفراد الكويريين كخطر اجتماعي وأمني. 

في ظلّ الحكومات المتعاقبة، استمرت تلك الممارسات عبر تصوير المرأة الليبية إما كرمز للعفة الوطنية أو كتهديد للهوية الثقافية إذا ما تبنّت أفكارًا تحرريّة. وأهم مثال على هذا الخطاب القومي الذكوري خلال حكم القذافي يمكن العثور عليه في خطاباته العديدة التي كان يروِّج فيها لفكرة "الزعيم القوي" الذي يُمثل الأمل في حماية الأمة الليبية من الأعداء الداخليين والخارجيين. على سبيل المثال في مقابلة له قال القذافي: الرجال هم الذين يجب أن يقودوا الأمة، لأنهم الأقوياء القادرون على حماية الوطن5." هذا الخطاب يعكس تلك الأيديولوجية التي تروّج لفكرة "الرجل القوي" الذي يرمز إلى القوة والقدرة على حماية الأمة، ويَستبعد النساء والأفراد الكويريين من أي دور قيادي. إضافةً إلى ذلك كان القذافي يعبّر عن معارضته للأدوار التقليدية التي قد تُمنح للنساء، وكان يُصوّر الأفراد الكويريين كتهديد للتماسك الاجتماعي والأخلاقي في المجتمع الليبي.

المرأة والهوية الوطنية في الدعاية الليبية

لطالما لعبت النساء دورًا مركزيًا في الدعاية السياسية الليبية، وخضعت صورتهن للتلاعب من أجل خدمة أهداف السلطة. في كتابها6 Fascist Modernities (حداثات فاشيّة) توضح المؤرخة الأمريكية روث بن غيات كيف أن الفاشية الإيطالية اعتمدت خطابًا يمجّد دور المرأة كأم ومربية في المجتمع لكنه يحرمها من أي استقلال سياسي. 

يمكن ملاحظة تشابه هذه الاستراتيجية مع السائد في ليبيا، إذ تستخدم السلطات الأمنية المؤسسات الدينية والإعلام للتحكّم بصورة النساء، مروّجة لفكرة أن المرأة هي "حاملة الشرف" الوطني، مما يجعل أي تحدٍّ لسياسات الدولة بمثابة خيانة ثقافية. وتستخدم لذلك البرامج التلفزيونية التي تصوّر النساء في أدوار تقليدية تهدف إلى تعزيز الأسرة وحماية القيم المجتمعية. 

تُصوّر المرأة غالبًا كـ"رمز للأمة"، إذ يُعتبر دورها الأساسي في المجتمع هو تربية الأجيال القادمة والحفاظ على الشرف الوطني. إضافةً إلى ذلك تتبنّى بعض الخطابات السياسية التي يقدّمها المسؤولون في ليبيا هذه السردية حول دور النساء في المجتمع. في حادثة ديستوبية رفض عميد بلدية زلطن. عمر الصغير، تسليم السلطة للفائزة بالانتخابات الزائرة المقطوف7. وقال بشكل علني: "لن نجعل نساءنا إماماً لنا". 

يعكس هذا التصريح وجهات نظر أبوية عميقة حول أدوار القيادة، ومكانة النساء في المجتمع الليبي. ويبرز رفضه الصراع المستمر من أجل المساواة في المجال السياسي، خاصة في بلد هُمّشت فيه النساء تاريخيًا عن المناصب القيادية. 

كذلك تلعب المناهج الدراسية دورًا في تعزيز هذه السرديات، مع التركيز على تمجيد دور المرأة في الأسرة وتربية الأجيال القادمة، مقابل تقليل أهمية دورها في المجالات السياسية أو العامة. ويلعب التعليم دورًا في إرساء ذلك عبر تقديم صورة عن المرأة كجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية، لكن ضمن نطاق ضيق لا يتعدى الأدوار التقليدية.

هذه الأيديولوجية ليست جديدة، بل هي استمرار لنهج استعماري قديم رسخته الفاشية الإيطالية من خلال "تصنيف" النساء وفقًا لفائدتهن في خدمة النظام. واليوم تبقي الحكومات الليبية المتعاقبة على هذا التصنيف مع تعديلات محلية تناسب "المشهد السياسي" الحالي، كالتوجّه المستمر في بعض السياسات الحكومية لتوظيف النساء في المجالات الاجتماعية، والترويج لدورهنّ في الحفاظ على الأسرة والشرف الوطني بينما يُحرمن من الوصول إلى المناصب القيادية السياسية.

القمع الممنهج للأفراد الكويريين

على غرار الأنظمة الفاشية التي شيطنت الأقليات لضمان وحدة المجتمع القومي8، عمدت الحكومات الليبية إلى استخدام لغة تحريضية ضدّ الأفراد الكويريين. في أيلول/ سبتمبر 2023، بدأ جهاز الأمن الداخلي في طرابلس حملة تحريض تتهم الأفراد الكويريين بأنّهم يشكلون تهديدًا للهوية الليبية. في هذه الحملة استخدم الأمن فيديوهات9 الاعترافات المسجّلة لأشخاص من المجتمع الكويري تحت التعذيب والتهديد وعرضها كدليل على "خيانة" هؤلاء الأفراد. 

كما اختطف جهاز الأمن الداخلي نحو 30 فردًا،بينهم قُصّر من بيوتهم/ن وأماكن عملهم/ن ونقاط التفتيش في الشوارع. لاحقًا ظهر منهم 19 فردًا في قضية تتهمهمن بالـ"مثلية" والردّة ومحاولة زعزعة أمن الدولة والمجتمع10. وقد استخدمت الفيديوهات لإضفاء الشرعية على العنف ضدّ الكويريين، إذ انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مُتعمّد لتشويه سمعتهم وتحفيز المجتمع على رفضهم، مما يفاقم معاناتهم ويعرّضهم للملاحقة والعنف الاجتماعي.

تعكس هذه الممارسات ما يصفه روبرت باكستون في كتابه The Anatomy of Fascism (تشريح الفاشية)، والذي يشير إلى أن الأنظمة الفاشية تعتمد على خلق أعداء داخليين لتبرير سلطتها المطلقة. لكن إذا تأملنا فإن الحملة ضدّ الأفراد الكويريين في ليبيا ليست مجرد انعكاسًا للنزعة الفاشية، بل هي أيضًا استراتيجية سياسية كلاسيكية تُستخدم عندما تفشل الحكومة في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين. فالسلطة التي تعجز عن توفير الخدمات الأساسية أو الأمن، تجد في الخطاب التحريضي ضد الفئات المهمشة وسيلة فعالة لصرف الانتباه عن إخفاقاتها. 

وبذلك تصبح حياة الأفراد الكويريين بمثابة كبش فداء دائم عبر تحميلهم/ن مسؤولية "الانحلال الأخلاقي"، وكأن كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ستُحل بمجرّد محاربتهم/ن، إذ يصور الأفراد الكويريون كـ"مشروع أجنبي" يهدف إلى تقويض القيم الليبية. بل وصل الأمر إلى حدّ تصويرهم/ن كأداة تستخدمها قوى خارجية "لإضعاف الأمة"، وهو الخطاب ذاته الذي استخدمته الأنظمة الفاشية لتبرير قمع المعارضين السياسيين والأقليات. 

هذه الاستراتيجية لا تقتصر فقط على الخطابات، بل تمتدّ إلى الممارسات الأمنية والقضائية، إذ يُستهدفُ الأفراد الكويريون بالمداهمات والاعتقالات التعسفية، وغالبًا ما يُجبرون على الإدلاء باعترافات قسرية أمام كاميرات الإعلام لعرضها لاحقًا كعبرة للمجتمع. هذا النهج يهدف إلى خلق خوف جماعي بين الناس، إذ يُدرك الجميع أن هناك فئة "أضعف" يمكن اضطهادها بلا عقاب، وهو ما يرسّخ الشعور بالعجز الجماعي ويمنع أية مقاومة فعلية للنظام؛ إنه تذكير دائم بأن الدولة قادرة على سحق أي فرد يخرج عن الخطاب الرسمي، وبأن "العدو الداخلي" يمكن أن يكون أي شخص لا يتماشى مع التوجهات السلطوية. وهكذا لا يستغل الأفراد الكويريون كوسيلة لضمان وحدة المجتمع القومي فحسب، بل أيضًا كأداة لترسيخ الخضوع والطاعة المطلقة لدى الجميع.

تفكيك الدعاية السلطوية

في ظلّ التصاعد المُستمر للنزعات السلطوية، يصبح من الضروري تفكيك الخطاب الدعائي المبرر لقمع النساء والمجتمع الكويري، ليس فقط لفهم آليات الهيمنة بل أيضًا لتحديد طرق المقاومة الممكنة. 

لا ينشأ الخطاب القمعي من الفراغ؛ بل هو نتاج تراكم تاريخي يستخدم أدوات الإعلام والمؤسسات الدينية والقوانين، لفرض رؤية أحادية حول الهوية الوطنية والأخلاق المجتمعية. عندما ندرك كيف تُستخدم هذه الأدوات، يصبح من الأسهل تعطيلها وإعادة تشكيلها بطرق تخدم العدالة والمساواة. لكنّ تفكيك هذا الخطاب لا يعني فضحه فحسب، بل يستوجب تقديم سرديات بديلة تعيد للنساء ولأفراد المجتمع الكويري مكانتهن كمواطنات فاعلات في بناء مستقبل ليبيا. فالردّ على القمع يجب ألا يقتصر على مقاومة فردية أو جماعية في الخفاء، بل أن يشمل أيضًا خلق منصّات تعيد تشكيل الخطاب العام، سواء عبر الصحافة أو الفنون أو النشاط الحقوقي. 

بعد سقوط نظام القذافي في 2011، شهدت ليبيا تحوّلًا سياسيًا فوضويًا أتاح ظهور خطاب قمعي مناهض لحقوق النساء والمجتمع الكويري، إذ استخدمت الجماعات السياسية والدينية المتنازعة وسائل الإعلام والقرارات التنفيذية لتعزيز هذه الأيديولوجيات. في هذا السياق تواصل المنظمات الحقوقية ونشطاء نسويون/ات وصحفيون/ات وفنانون/ات في المهجر مواجهة هذا الخطاب. ورغم التحديات تمثل هذه الجهود خطوات نحو بناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة في ليبيا، فقد أثبت التاريخ أن الأنظمة القمعية قد تنجح مؤقتًا في فرض رؤيتها بالقوة، لكنها تفشل دائمًا عندما يبدأ الناس في تخيل واقع بديل أكثر عدالة. 
 

رتاج ابراهيم

شريكة مُؤَسِسة ومديرة مشاريع منظمة "كُن"، وباحثة ليبية وناشطة تقاطعيّة تركّز على الجندر وسياسات منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا.

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.